لم يصدق زكريا قناوى صاحب إحدى ورش النحاس بشارع الخرنفش بحى الجمالية أننا جئنا خصيصا للوقوف على الحال المتدهور الذى وصلت إليه «صنعتهم»، تشكك فى أول الأمر وظن أننا جئنا فى «زمرة الفضائيات» لزيارة شارع البرقوقية الموازى لهم، مسقط رأس المرشح المحتمل عبدالفتاح السيسى. «أعمل فى تصنيع النحاس منذ أكثر من 20 عاما، والفرق أننى منذ سنوات كنت أشترى 100 كيلو لصهره وتشكيله أما الآن فبالكاد أشترى 10 كيلو فقط» يستخدم زكريا لغة الأرقام ليوجز قضيته، ويتابع سرده الرقمى «طن النحاس اليوم قفز إلى 80 ألف جنيه فى حين كان سعره 12 ألف جنيه فقط فى بداية عمله بالنحاس»، ويعتبر أن هذا الارتفاع فى الأسعار تسبب فى اشتغال عدد كبير من العاملين بهذا القطاع بمعادن أخرى أكثر رخصا مثل الرصاص،فيما اضطر عدد آخر لبيع النحاس الذى تبقى لديهم وتدشين مشروعات بديلة تدر دخلا مثل محلات البقالة أو العمل كسائقى تاكسى. ورشة زكريا واحدة من عدد محدود من الورش التى لا تزال تعمل فى سبك وشغل المنتجات النحاسية فى حى الجمالية العريق، وأحد الذين تضرروا جراء انحسار السياحة وما تبعها من كساد فى خان الخليلى، الذى يعتبر زكريا أنه كان يستوعب وحده نحو «70 فى المائة من منتجات النحاس، ويليها كابلات ولوحات الكهرباء». هذا الحديث عن استبدال الخامات لتحاشى ارتفاع سعر النحاس وعدم تعويضه فى السوق، كان سببا فى تحول الورشة التى يعمل بها الأسطى محمد من العمل بشغل النحاس إلى الصاج «أقوم حاليا بتشكيل النجف مستعينا بخامة الصاج، وأطليه بالنحاس الأحمر بسبب ارتفاع سعر كيلو النحاس الذى وصل إلى 85 جنيها، ومفيش شغل، ولازم أمشّى حالى». يلتقط الأسطى محمد صورا فوتوغرافية لعدد من الأشغال النحاسية التى يفخر أنه أنجزها على مدار عمره «عمرى كله فى النحاس، وأنا عمرى الآن 49 سنة» يقولها ويستمر فى استعراض «ألبوم ذكرياته النحاسية»، ويشير إلى المعروض حاليا فى ورشته بما فى ذلك فانوس رمضان النحاس الذى تحوّل إلى فانوس صاج لم يترك له «الصينى» سبيلا. يكنى محمد مهنته ب«مهنة الجمالية» التى تلخص حرفة أهلها فى المشغولات اليدوية وتميزهم عالميا، ويعترف كذلك باستعداده لترك المهنة إذا سنحت له الظروف «عشان عندى عيال والتزامات»، ولكن خبرته فى النحاس تلجمه فى كثير من الأحيان رغم حال الورشة المتدهور يحكى عن حاله وهو يشير إلى قصة عازف مزمار يصطحب غزالته المنقوشة على متن طبق نحاسى قديم. حديث زكريا ومحمد عن إغلاق الكثير من الورش العاملة بالنحاس تستطيع أن تلمسه بسهولة أثناء جولتك فى شوارع الجمالية التى كان يُسمع بها أصوات الطرق على المعادن منذ أن تطأ مدخل شارع المعز، وكثيرا ما قرأت عن «جمالياته» فى روايات الراحل نجيب محفوظ،فحفر فى الذهنية الأدبية مع مبدعى فن النحاسيات صورة جليلة لتراث القاهرة الفاطمية على النحاس. ليس فقط القاهرة الفاطمية، فالنحاس كان من أقدم المعادن التى استخدمها الفراعنة فى فن تطويع النحاس لعمل الحلى كتميمة اعتقدوا أنها تحميهم من الشرور وتجلب الحظ. وحتى زمن قريب كان «طقم النحاس» أحد أساسيات «جهاز العروسة» بما فى ذلك «طشت الغسيل» وصوانى التقديم وكنكة القهوة وحتى «قدرة تدميس الفول». فى طريق البحث عن ورشة عاملة يدلك أهل الحى عن «خان أبو طاقية» وتحديدا «وكالة عزيزة» التى تحتضن النحاسين، وعلى باب الوكالة كان يجلس عادل الفيومى صاحب ورشة نحاس شارك زملاءه شكوى غلو خامة النحاس «كان لدينا اكتفاء ذاتى من النحاس، ولم نكن نستورده من الخارج، فأنا اعمل فى هذه المهنة أبا عن جد، وكيلو النحاس كان لا يتعدى 24 جنيها أما الآن فتجاوز ال80 جنيها». يشير الفيومى إلى أماكن الورش من حوله التى أغلقت بما فى ذلك مسابك النحاس «كان فى هذا المربع قبل سنوات أكثر من 15 ورشة، لم يتبق منهم سواى أنا وابن عمى وأخى الذى كان رائدا فى تشكيل الاكسسوارات بالنحاس وتضرر تماما بسبب غزو الصين لمجال الاكسسوار الحريمى مستعينين بمعادن منخفضة القيمة وخط انتاج ضخم». يرى الفيومى أن الحل فى التفات الدولة لتراث «أمى وأمك» على حد تعبيره مفسرا بقوله «الحلة والغطا والطشت»، مؤكدا أن هذه القطع التراثية تم بيعها كخردة مما أسهم فى تحقيق كثيرين لثورات طائلة من ورائها، مؤكدا أن كيلو خردة النحاس وصل اليوم إلى ما يوازى 50 جنيها للكيلو، وأن احتكار عدد من التجار لتصدير خردة النحاس واستيراد النحاس الخام من الخارج وراء ارتفاع سعر الخامة، مطالبا بتفعيل ما كان يطلق عليه قديما نظام «شيخ الصنيعية» لرفع مطالب المتضررين من العاملين بالورش، الذى أدى إلى هجرة الصنايعية الأكفاء لحرفتهم، ولجوء أصحاب الورش فى المقابل للحفر الصناعى عن طريق «الزنكوجراف» كبديل للحفر اليدوى بالمطرقة والإزميل الذى «لا يقدر قيمته إلا الخواجات» على حد تعبيره. «من حيث المبدأ لا يوجد عندنا فى مصر خامات أساسية بما فى ذلك النحاس» يعلق محمد حنفى مدير عام غرفة الصناعة المعدنية على ارتفاع سعر النحاس ويتابع «استخدام النحاس يكون من خلال تدوير خردة ومخلفات النحاس التى تدخل بعد ذلك فى صناعة المشغولات، وسبق وفرضنا رسما صادرا يعادل 8500 جنيه على كل طن خردة حتى نضمن توافرها فى السوق المحلية». من ناحية أخرى يعتبر حنفى أن سعر النحاس ليس هو العامل الرئيسى فى أزمة ورش الجمالية بقدر ما تكمن الأزمة فى انحسار السياحة، خاصة أن اصحاب الورش قللوا الكمية التى يعملون بها، وكذلك الحال بالنسبة للخامات المستخدمة للصناعات التراثية التى ترصدها الغرفة بما فى ذلك الحديد والخشب والذهب، لاسيما أن القيمة المضافة للسلع التراثية والحرفية تكون عالية جدا. «اللجوء للمجالس التصديرية» هو المخرج الذى يرى مدير عام غرفة الصناعة المعدنية فى ظل تأثر السوق المحلية، الذى يكفل لأصحاب الحرف التقليدية المشاركة فى معارض عالمية، مؤكدا كذلك على ما أسماها «الحرب» التى خاضتها الغرفة من سنوات ضد نظام إقراض صغار الحرفيين بفوائد لتشغييل ورشهم، وتفعيل نظام «الحضانات» التى تتيح استئجارهم لورش بإيجارات بسيطة، بدلا من هجرهم للمهنة،وكان هناك مشروع قديم بإقامة هذه الورش بمجمع يشبه تكوين خان الخليلى بامتداد المتحف المصرى الكبير الذى سيجاور الأهرامات، كمنطقة جذب سياح ى جديد، معتبرا أن كل هذه المشاريع لا يمكن تحققها إلا فى ظل سوق مستقرة نسبيا، ما يجعل أزمتهم تدور فى دائرة مغلقة.