المطبوعات العربية الجادة من مجلات ثقافية ودوريات سياسية وأدبية وفصليات عامة ومتخصصة تعانى جميعها من العمل فى ظروف بالغة الصعوبة، وفى مناخ ثقافى عام يكاد ينكرها أو يعترف بدورها. ولا يرجع ذلك فقط إلى أنها توجه خطابها إلى قارئ خاص يحسب فى منطقتنا ببضعة آلاف، أو أنها تلتزم بجدية الطرح وعلمية البحث ورزانة العرض، وهى أمور لم تعد تجذب القارئ العربى المعاصر، أو تشد انتباهه وسط طوفان الغزو الإعلامى المرئى وصحافة الإثارة المطبوعة، وإنما يعود أيضا إلى الأسباب التالية: أولا: انحسار عادة القراءة فى المنطقة العربية لأسباب سياسية واقتصادية وتربوية ومجتمعية، وإدمان شعوبها لثقافة التسلية والترفيه والعزوف عن مصادر الثقافة الجادة باعتبارها قليلة الجدوى وضعيفة المردود. وذلك نتاج شعور عام بضعف فاعلياتها فى التعامل مع المشكلات الحياتية الملحة، وقلة تأثيرها على مجريات الأمور بالبلاد، خاصة فى ظل فجوة عميقة بين ما يكتب من آراء، وما يمارس من سياسيات، وفى إطار جو ثقافى عام يدفع بقيمة الثروة إلى أعلى مكانة، ويهبط بقيمة الثقافة إلى أسفلها، ويضفى على العمل التنفيذى من الاهتمام والاحترام أضعاف ما يوليه للعمل الفكرى والثقافى. ثانيا: اختطاف أجهزة الإعلام المرئية، وأدوات الاتصال الإلكترونية لاهتمام القاعدة العريضة من الجمهور العربى، وذلك لقدرة الأولى على منح وسائل التسلية والترفيه وأدوات شغل الوقت لمشاهد هو بحكم ظروفه المعيشية فى أشد الحاجة إليها. فضلا عن إمكاناتها فى تقديم وجبات ثقافية وسياسية يمكن استيعابها ومسايرتها من طرف شرائح واسعة ومختلفة، خاصة بحكم علاقة التلقى فى اتجاه واحد التى تربطها بالمشاهدين. وكذلك لنجاح الثانية فى كسب العناصر الشابة والمتعلمة والقادرة عبر سرعة إيقاعها أو اتصالها بالعالم الخارجى على اتساعه، وعلاقاتها بالتقنيات الحديثة، وقدرتها على استدعاء المعلومات فى المجال المطلوب وبالمستوى والتوقيت المرغوب، وهو أمر يصعب على المطبوعات الجادة مجاراته أو التنافس معه أو طرق مجالاته أو اجتذاب جمهوره. ثالثا: افتقاد السياسات العربية ل«ثقافة» الاستعانة بمراكز الدراسات ومؤسسات البحوث السياسة والاقتصادية والفكرية والتنموية كجهات استشارية بحثية مساعدة لأجهزة الحكم. أو الاعتماد على المطبوعات الجادة فى مختلف مجالاتها للقيام بمهمات بحثية استطلاعية، أو دراسات ميدانية، أو بحوث مستقبلية، أو إطلاق بالونات اختبار سياسية، مع ما يقتضيه ذلك من انفتاح على هذه المراكز والمطبوعات والتعاون معها وإطلاعها على توجهات الدولة وخلفيات صناعة القرارات المهمة بها، وموافاتها بما يلزم من معلومات وتقديرات وإحصاءات، بما يكسب دراساتها وبحوثها قيمة علمية ومصداقية بحثية، ويجنبها موقف «التغرب» الحالى عن فكر الدولة، وحصر مهمتها فى إصدار مطبوعات يغلب عليها الطابع الأكاديمى، وتعانى من محدودية التوزيع و ضعف التأثير. رابعا: وقوع عدد من كبار الباحثين، الذين يمثلون الركن الأساسى فى إنتاج المطبوعات الجادة، فى دائرة إغواء الإعلام المرئى بأضوائه وإمكاناته المالية، وقدراته على منح الشهرة والنجومية. فضلا عن تفضيل بعضهم التعامل مع الصحافة اليومية أو الأسبوعية الأكثر انتشارا، والأقدر على تغطية الأحداث الجارية فى مجالاتها المختلفة، والأسهل فى تناولها بالتحليل فى شكل مبسط يرضى أذواق القاعدة القارئة العريضة، ويتفق مع الإيقاع الصحفى السريع، وهو الأمر الذى يحرم المطبوعات الجادة من جهودهم، ويحد من اختياراتها فى مجالات تخصصهم، كما أنه يصرفهم من ناحية أخرى عن عملهم الأساسى فى التركيز على البحث المتأنى والمعمق فى المجالات المختلفة سياسة واقتصادية وثقافية و اجتماعية، وتغطيتها بشكل شامل ومن منظور طويل الأمد وعلى مساحة زمنية ممتدة. خامسا: تراجع دور المثقف العربى وهبوط موقعه فى المجتمع الذى ينتمى إليه. وتنازله عن دوره فى بناء عقل الأمة والدفاع عن قضاياها، وقبوله العمل إما فى إصدارات حكومية تستهدف استيعابه وكسب ولائه واستثمار إمكاناته فى تسويق السياسات الرسمية، أو فى مجالات إعلامية لمؤسسات خاصة بغرض الدعاية لنشاطاتها التجارية والاستثمارية أو لطموحاتها الذاتية، أو الانتماء لقوى سياسية معارضه تعانى من الانقسام الداخلى ومن ضعف التأثير الخارجى، فضلا عن استثمار آرائه كوقود فكرى فى معارك الأفكار المرتبكة الدائرة على ساحة الفضائيات العربية بين التيارات السياسية والفكرية المتصارعة. على أن المشكلات والعراقيل «الخارجية» التى تواجه المطبوعات الجادة لا تمثل جميع القيود التى تحيط بحركتها إذ إنها تعانى من نوع آخر من المشكلات «الداخلية» تتمثل فى اختلال التوازن بين كلفة العمل الثقافى وعائده، باعتبار أن الارتفاع الباهظ لتكاليف التقدم التقنى فى إصدار المطبوعات الثقافية يؤدى تلقائيا إلى ارتفاع أسعارها، وهو أمر يصعب تفاديه مهما كان التقدير والتفهم لضعف الإمكانات المادية للقارئ العربى المثقف، والاقتناع بعدم قدرته على الموازنة بين أعباء معيشته اليومية وبين متطلباته الوجدانية والثقافية. هذا فضلا عن صعوبة اعتماد هذه المطبوعات على الفئات القادرة وحدها، حيث لا يُقدِر معظمها مكانة الثقافة فى المجتمع، باعتبار أن قيمها لم تُدخل عنصرا مؤثرا فى تكوين وتراكم ثرواتهم، أو تمثل عاملا فعالا فى ارتقائهم لسلم الصعود الاجتماعى. وعلى الرغم من أن المشكلات والعوائق التى تعترض عمل المطبوعات الجادة توضح صعوبة إصدارها واستمرارها اعتمادا على تمويل ذاتى أو ميزانيات مستقلة، الأمر الذى يفسر صدروها بتمويل أو دعم أجهزة رسمية، أو منظمات إقليمية ودولية أو مؤسسات صحفية، أو أحزاب سياسية أو مراكز أكاديمية، فإن الشاهد أن بعض هذه المطبوعات قد استطاعت أن تثبت نجاحها فى خلق جمهور قارئ لها، وأن تفرض نفسها كمرجع معترف به فى أبحاث المراكز الدراسية والرسالات الجامعية، كما تمكن بعضها الآخر من تخطى الحدود وإقامة علاقات مع مراكز بحثية ومطبوعات ثقافية على المستوى الدولى، إلا أن المشكلة الحقيقية التى تواجه هذه المطبوعات لا تتعلق فقط بحفاظها على مستوى الأداء، والقدرة على التطور والتنوع والتحديث، وإنما أصبحت تتصل فى المقام الأول بتقدم الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية على الساحة العربية خاصة فى مجالات التعليم والإصلاح والديمقراطية.