فى أحد شوارع حى الزمالك، يتجول فريق من المتطوعين والمتطوعات الذين ينتمون لمبادرة «خريطة التحرش»، وهو مشروع لمكافحة الظاهرة والتصدى لها بدأ فى القاهرة منذ 2005. لم يكن اختيار المكان وليد الصدفة، بل لأن هذا الشارع يمثل إحدى بؤر التحرش الساخنة. وبينما يتنقل الناشطون للتوعية بالظاهرة، يندس وسط الجمع سرب من الصغار يقوم بتطويقه. شكل من أشكال الهجوم لاستعراض القوة! فى حركة مباغتة يتسلل كريم، 11 سنة لتعبث يده بجسد إحدى المتطوعات فى جرأة متناهية، ثم يبدأ مهمة الفرار بعد أن فعل ما فعل على خير وجه وسط تهليل أصدقائه الذين راهنوا على قدرته على التحرش بإحدى الفتيات. ربما كانت رغبة الصغير فى أن يثبت لأقرانه أنه ليس بضعيف هو ما قاده للمجازفة وللانخراط فى هذه التجربة المجنونة التى لم يدرك بعد عواقبها الوخيمة، فعندما قام بهذه المناورة، لم يكن يرى أمامه سوى كلمات الإطراء والمديح من أقرانه، ونظرات الإعجاب بشجاعته ونشوة انتصار، الرغبة الجنسية لم تكن هى مطلقا الدافع وراء المغامرة التى انخرط فيها الصبى الذى يقطن بأحد ضواحى القاهرة الراقية وجاء لحى الزمالك من أجل ممارسة «سياحة التحرش» مع بعض الأصدقاء فى نفس عمره.
وبالرغم من خفة حركته، كانت يد الناشطة المدربة أسرع منه، إذ أمسكته به من قفاه لتحرر له محضر فى قسم الشرطة. تبدلت قسمات الصغير الذى كان منذ دقائق قليلة يستعرض عضلاته أمام أصحابه، لينخرط فى بكاء عميق. وعندما جاء شقيقه الطبيب ليتسلمه من القسم، لم تتنازل الناشطة عن المحضر إلإ عندما حصلت على وعد من كريم أن ينضم إلى الفريق كأحد المتطوعين لمناهضة التحرش وبصفة خاصة بين أقرانه من الأطفال والمراهقين.
دونت هذه الواقعة فى أرشيف 2013/2012 مبادرة «خريطة التحرش»، ضمن حالات أخرى كثيرة، إذ تشير أرقام البلاغات التى تلقتها تلك الجمعية الأهلية إلى أن 39 % من بلاغات التحرش فى غضون العام الماضى كانت تتهم أطفالا، كما أن 52 % من شكاوى التحرش الجماعى التى استقبلها فريق العمل كانت ضد أطفال، من بينهم 23 % تلامذة مدار، على اعتبار أن مدارس البنات هدف مهم للمتحرشين.
تعلق المتحدثة الإعلامية لخريطة التحرش، إباء التمامى: «تفشى الظاهرة بين الأطفال تعكس شيوع ثقافة القهر فى المجتمع، فالطفل عندما يتحرش يقوم فى الواقع بمحاكاة الكبار فى تنفيس الغضب المتراكم إزاء شخص آخر، لأنه أصبح هناك اليوم ما يمكن تسميته بتربية التحرش.
«هناك تركيبة نفسية معينة للمتحرش، فهو يشعر أنه شخص عاش لسنوات تحت قمع، ليس له سيطرة على حياته، وقد يكون مثل هذا الفعل وسيلة لإثبات أنه قوى وغير عاجز أمام منظومة كاملة تدير آلة القهر. وهو ما يسعى الشخص لا شعوريا أن يبثه لدى الصغير الذى ينشأ على هذا المنوال»، هذا هو تحليل إباء التمامى، المتحدثة الرسمية، للموقف، وهى تروى قصة أحد وجوه المتحرشين المألوفة عندما كان يصطحب ابنه للتحرش يوم العيد، وكأن الأمر أصبح بمثابة «عادة» أو «نشاط» لابد من ممارسته فى مثل هذه الأيام «المفترجة». كان الأب يشجع ابنه على التحرش بالبنات كشكل من أشكال الذكورة! أما فى عالم الأطفال فتبدو ثقافة «التحرش» أيضا من الأشياء الشائعة، كما تقول أباء: «الطفل الذى يمر بهذه التجربة يكون هدفه فى الأساس الاستعراض وإثبات أنه صار رجلا قادرا على مواجهة التحدى، فالأمر بالنسبة له مجرد لعبة يريد أن يثبت لنفسه من خلالها أنه يستطيع صنع ضحية. وعندما يسبب للفتاة نوعا من الضيق والألم يشعر بنوع من الانتشاء لأنه استطاع أن يرى أحد مكسورا ذليلا أمامه، ما يرضيه ويشعره بأنه على درجة من القوة».
زعيم شارع عباس العقاد
المجتمع الذى يدور فى فلك القهر، يشعر أفراده بمثل هذه الأمور منذ اللبنات الأولى، فى رأى الدكتورة هالة حماد، استشارى الطب النفسى للأطفال والمراهقين: «الطفل الذى تم قهره بواسطة والدته بالضرب أو السب أو التكدير، قد ينشأ لديه شعور عدائى دفين تجاه المرأة، وهو يسقط هذا الشعور على المارات فى الشارع بشكل لا شعورى، ما نطلق عليه فى علم النفس displacement». ثم تدلل الطبيبة على رأيها بقصة طفل كان يتحرش بالآخرين منذ السادسة من عمره، لأن والده كان يجعله يشاهد أفلام إباحية معه، وكيف قامت بعلاجه.
يبدو عمرو، صبى الميكانيكى ( 15 سنة) ك«القرد أبو صديرى»، فى شارع عباس العقاد ( بمدينة نصر) وهو الشارع الذى يسجل الرقم القياسى بالنسبة لحالات التحرش، وفقا لدراسات الخريطة، نظرا لأنه شارع تجارى ينتشر به العديد من الأطفال بلا مأوى. وفى مكان أشبه بالوكر مثاليا ينشط عمرو: للوهلة الأولى، تشعر وكأنك أمام مشروع «بلطجى»، شعر ممشوط للخلف ثم تثبيته بكمية كبيرة من الكريم، سروال سقط ليكشف عن ما تحته، سيجارة فى اليد اليمنى ومطواة قرن غزال فى اليد الأخرى. بجوار أحد محال الفول والفلافل، يستعين عمرو بجيش من أطفال الشوارع لتهديد أمن المارات، سواء بثعبان صناعى يلقيه عليهن أو باستعراض سلاحه الأبيض. وربما استطاع هذا المراهق النازح من عزبة الهجانة (الواقعة على أعتاب مدينة نصر) أن يفهم جيدا عقلية أقرانه من أطفال الشوارع فيقودهم فى مغامرة طويلة. ترضى تلك الوضعية شعوره بالزعامة، فهو لا يشعر بذاته سوى وسط هؤلاء، خاصة بعد أن رسب فى دراسته وفى تعلم حرفة، ولم يسلم قط من توبيخ أمه. ويقول عمرو إن ظروفه حياته لا تختلف كثيرا عن حياة رفاق الشارع، فهو يقضى معظم وقته فى الشارع الكبير، بعيدا عن المنطقة العشوائية التى يسكنها، ففى الشارع الكبير هامش الحرية أوسع. أما والدة عمرو التى تعمل كمساعدة منزل فتقول: «تلقى ابنى دروسه الأولى فى التحرش على يد أحد مدرسيه، ثم بعد ذلك رأى (الأسطى) فى الورشة يناغش السيدات».
يستخدم عمرو كلمات تؤكد نزعته لتأكيد التفوق الذكورى، وهو يلخص مبرره بقول «الحريم مكانها البيت»، وبمناقشة فكرة أن والدته نفسها تعمل يجيب دون تردد بنبرة الهيمنة نفسها: «لن نترك نسوان البيت يخرجوا ووجههن مكشوف». ومن الغريب أن ترضى أمه بهذا الرأى، رغم اعتراضها على سلوكه، فهى أيضا تشعر بتفوق ما لأنها أنجبت ذكرا.
لمس «الفَرسة»
قد تختلف مصطلحات التحرش من طفل لآخر، بحسب الطبقة الاجتماعية التى ينتمى لها، لكن تدور معظمها فى فلك الشعور بالقهر والرغبة فى إثبات الذات، فإذا كان عمرو يستخدم كلمة «حريم»، فزميله رامى الذى يسكن مدينة الرحاب الراقية يفضل كلمة «الفَرسة»، عندما يشجع أقرانه «الكوول»، على حد تعبيره، أن يقوموا بلمس مؤخرة أو صدر إحدى البنات كى يتوج أحدهم «المتحرش الرسمى» للمنطقة، كما يردد رامى متهكما وقد اقتبس تعبيرا من أحد أفلام أحمد حلمى الكوميدية.
لم يعد التحرش مرتبطا بطبقة اجتماعية معينة ولا بأطفال الشوارع وحدهم، على حد تأكيد فريق «خريطة التحرش»، فالمجتمع مقهور اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، وهو ما تبرهن عليه أرقام الخريطة التى ترصد أن 20% من المتحرشين يقومون بذلك من داخل السيارة، ما يعكس القدرة المالية، كما أن 15.5% من المتحرشين يكون لديهم سلطة ما (ضباط الشرطة، مدرسين إلخ). الأمر الذى يشرح من ناحية أخرى فكرة استخدام بعض الأطفال لمهاجمة الناشطات فى المظاهرات لأن هؤلاء الصغار يتم إقناعهم من قبل «أفراد لهم سلطة» أن الناشطة تهدد مصلحة الوطن وبالتالى مستقبله شخصيا.
لكن ظاهرة تفشى التحرش بين الأطفال قد تتفاقم يوما بعد يوم ككرة الثلج، فحاليا الأطفال يحصلون على القدوة من احتذاء نموذج الأصدقاء، وفقا لكلام الدكتورة هالة حماد، فالقبول الاجتماعى لظاهرة التحرش واعتبارها فى بعض الأحيان «مجرد مزحة» يزيد الوضع سوءا، ويطرح تحديات عدة أمام منظمات المجتمع المدنى التى لابد وأن تواجه التحرش من جذوره، فعلينا أن نقهر ثقافة القهر.