لم ترفضهم الدول الأخرى، لكن رفضهم بلدهم، قرر أن يحرمهم من اللحاق العمل فى «الميرى»، بالإضافة إلى حرمان القطاع الخاص لهم من العمل، لأنهم مصابون بفيروس الالتهاب الكبدى الوبائى، وكأن الجميع، حكومة وقطاعا خاصا، اختار لهم الموت جوعا، بجانب الموت البطىء من أثر الفيروس اللعين. ورغم تأكيد الحكومة مسبقا أن مرضى الفيروس لهم الحق فى العمل بمختلف الوظائف، فإنها لم تتخذ إجراء على الأرض لتحويل هذا الحق إلى «أمر واقع»، وجاءت تصريحات مسئولى وزارة الصحة فى العام الماضى عن إجراء تشريعى بهذا الشأن، كبارقة أمل للمرضى، الذين تقدر إحصائيات وزارة الصحة نسبتهم ب10% من تعداد المصريين، لكنهم مازالوا ممنوعين من العمل حتى الآن.
يروى محمود بدوى، 27 سنة، العامل بإدارة المشروعات فى إحدى شركات المقاولات الكبرى، حكايته مع العمل والفيروس، قائلا إنه بدأ العمل سباكا بالشركة فى نوفمبر 2009، ثم عامل تليفونات، ورغم مرور 4 سنوات على التحاقه بالعمل فيها، إلا أن الإدارة ترفض تعيينه لأنه مصاب بالالتهاب الكبدى الفيروسى، مضيفا «فرحت بالثورة، لأن الإدارة وافقت على أن يكون التعيين بعد 3 سنين من العمل بالمكافأة الشهرية، بعدما كان 7 سنين، وجهزت أوراقى، وتوجهت إلى أحد المستشفيات المتعاقدة مع الشركة، ليقرر كبير الاطباء إذا ما كنت لائق أم لا، فطلب منى وقتها أن أذهب للعلاج أولا». وأضاف بدوى، أن «رئيس مجلس إدارة الشركة السابق، كان يوافق على تعيين أصحاب الأمراض المزمنة، بشرط التوقيع على إقرار يفيد بتحملهم نفقات العلاج بالكامل، إلا أن الرئيس الحالى يرفض ذلك، ويقول إنه مخالف للائحة الشركة، رغم أن اللائحة لم تتغير من سنوات، ولا تشير إلى رفض تعيين أصحاب الأمراض المزمنة، لكنها تشترط اللياقة البدنية».
ووفقا لقرار رئيس مجلس إدارة الشركة، الصادر فى يونيو الماضى، الذى حصلت «الشروق» على نسخة منه، فإن «الحالات المرشحة لتعديل صفة تعاقدها من نظام اليومية المؤقتة إلى نظامى المكافأة الشاملة وربط الأجر بالإنتاج، والتى يثبت من خلال توقيع الكشف الطبى عليها، إصابتها بفيروس سى، يتم إرسال جميع الكشوف الخاصة بها إلى مدير الإدارة الطبية، لتحديد مدى تأثير الفيروس عليها».
ويوضح بدوى «راتبى 900 جنيه، أصرف منه على أسرتى، وكل ما أطلبه هو التعيين»، واختتم حديثه قائلا إن «الشركة أكلتنا لحما وترمينا الآن عظاما، ودفعتنا إلى كره الحياة لدرجة أن احد زملائنا فكر فى الانتحار».
وفى الشركة نفسها، تحدث معنا العامل فتحى جمعة، الذى بدأ العمل فيها منذ عام 1992، دون أن يتم تعيينه فيها حتى الآن، وأوضح أن لديه 4 أولاد، وكل ما يأمل فيه لضمان مستقبلهم هو التعيين فى الشركة، مضيفا «فى كل مرة كان المسئولون يؤجلون تعيينى دون أسباب، وبعد الثورة، وافقوا على ذلك، وطلبوا إجراء الفحوصات الطبية، ففوجئت وقتها بإصابتى بفيروس سى».
يقول جمعة: «كل ما أحلم به هو التعيين قبل الخروج على المعاش، فالشركة ترفض أن تتحملنا فى وقت المرض، ومنذ 5 سنوات تعرضت لإصابة فى موقع العمل، فرفضت الشركة دفع تكاليف العلاج، رغم أنها إصابة عمل»، مضيفا «أين أذهب بعدما قضيت 20 عاما فى الشركة، لا أريد سوى المساواة مع زملائى، والتعيين حتى لو تحت بند ال5% من ذوى الإعاقة».
واتهم جمعة إدارة الشركة بالتسبب فى إصابتهم بالأمراض المزمنة، مشيرا إلى أن تقرير الإدارة المركزية للمعامل بوزارة الصحة، التى سحبت عينات من المياه بمواقع عملهم، أكدت أن المياه التى يشربها العاملون غير صالحة للاستخدام الآدمى.
وحصلت «الشروق» على نسخة من تقرير وزارة الصحة، الصادر فى نوفمبر الماضى، الذى أكد أن نتائج العينة المأخوذة بمعرفة الشركة غير صالحة للاستهلاك، وغير مطابقة للقرار رقم 458 لسنة 2007، لعدم مطابقتها للمعايير البيولوجية والخواص الطبيعية لزيادة العكارة عن الحدود المقررة.
من جهته، قال عامل البناء فى الشركة، حاتم على، إنه بدأ العمل فى الشركة من 4 سنوات، بعد عودته من الأردن، التى تعلم فيها أعمال البناء، موضحا «لا أمتلك أى مصدر رزق سوى راتبى الذى لا يتعدى ال700 جنيه، وأصرف منه على أسرتى، وبالمصادفة اكتشفت إصابتى بفيروس سى، رغم أن كشفا طبيا سابقا فى طنطا، أكد أننى لائق، قبل تسلم عملى باليومية».
وأضاف على: «الشركة طلبت منا أن نعالج أولا قبل التعيين، وبدأت بالفعل إجراءات استخراج قرار علاج على نفقة الدولة، وجمع الأوراق التى تفيد أننى ليست لدى أية جهة تأمينية، فى محاولة لمساعدتى على العلاج، خصوصا أن التحاليل تتكلف 1400 جنيه»، وتساءل: «الآن يرفض بلدى تعيينى، ولو حاولت العودة إلى الأردن سيرفضون أيضا، فهل أسافر إلى إسرائيل أم أعمل بلطجيا؟».
ومن جانبه، أعرب أمين رابطة أطباء الكبد العرب، محمد العتيق، عن تعجبه من التمييز ضد المرضى، رغم أن فيروس سى معروف أنه لا ينتقل إلا عن طريق الدم، وهو ما يعنى عدم وجود خطورة من توظيف المريض، مشيرا إلى أن الصين تحظر على أى مؤسسة رفض تعيين المصاب بالفيروس، وتحملها غرامات كبيرة إذا ثبت ضدها هذا الاتهام.
وأشار العتيق إلى أن «المشكلة الأكبر تخص المرضى الذين تم علاجهم من الفيروس عن طريق حقن الإنترفيرون طويل المفعول، فرغم أن فحوصاتهم تشير إلى سلبية الإصابة، فإن الأجسام المضادة فى الجسم، التى يتم الاستعانة بها فى الوظائف، تستمر لمدة 10 سنوات، لذلك يتم حرمانهم من الوظائف، رغم أنهم خالون من الفيروس».
ومن جهته، قال مساعد وزير الصحة، وأستاذ أمراض الكبد، عبد الحميد أباظة، إن «حرمان مرضى الالتهاب الكبدى من العمل فى بعض الوظائف يعتبر بدعة، وهو مخالف لقانون العمل، الذى لا يعتبر الفيروس أحد الأمراض التى تمنع التعيين، أو تقضى بإحالة العامل إلى المعاش المبكر»، مؤكدا أن «اللجنة القومية لمكافحة الفيروسات الكبدية، سبق لها إعداد وثيقة تقضى بوقف التمييز ضد مرضى الفيروس فى مصر، ومنع حجبهم من العمل فى بعض الوظائف، بسبب الإصابة». واعتبر أباظة أن «الأفضل إصدار قانون بشان منع التمييز ضد المرضى، حتى لا يتغير بتغير الحكومة، وليكون ملزما للجميع»، لافتا إلى أن القرار الذى سبق اقتراحه كان مقررا أن يكون ملزما للقطاعين العام والخاص»، وأضاف: «نحتاج موافقة مبدئية من الحكومة على القرار، للبدء فى وضع مسودة قانون بذلك، والوزارة مستعدة لتحمل نفقات علاج المرضى، دون تحميل أية جهة لأى مبالغ مالية، إذا اشترطت الشركات ذلك، مقابل تعيين المرضى».
ووفقا لأباظة، فإن «الشركات كانت قلقة فى البداية من تعيين المرضى، خوفا من تحمل تكاليف العلاج، أما الآن فالدولة وفرت علاج الانترفيرون للمرضى مجانا بأنواعه الثلاثة، سواء لمنتفعى التأمين الصحى أو العلاج على نفقة الدولة»، وشدد على أن «القرار سيخدم آلاف المرضى، خصوصا مع تزايد معدلات الإصابة بالفيروس فى مصر، فالعلاج يتكلف 600 مليون جنيه سنويا، أى ثلث ميزانية العلاج على نفقة الدولة، ومع تخفيض سعر العلاج، أمكن علاج عدد أكبر من المرضى، حيث يعالج حاليا ألفا مريض شهريا، وبدعم من وزارة الصحة والسكان، تم مضاعفة العدد، و أصبحت التكلفة 400 مليون جنيه فى السنة».
وقال أستاذ الجهاز الهضمى والكبد، بمعهد تيودور بلهارس، هشام الخياط، إن «معظم المرضى يكتشفون وجود الأجسام المضادة لفيروس سى بالمصادفة، سواء عند تبرعهم بالدم لأحد الأقارب، أو نتيجة للكشف عليهم وإجراء التحاليل قبل العمل»، موضحا أن «أرقام الإصابة بفيروس الالتهاب الكبدى تشير إلى أنها تتراوح بين 10 و15%، فى مراحل عمرية مختلفة».
وأشار الخياط إلى أن ظهور 100 ألف حالة إصابة جديدة سنويا، لافتا إلى أن «آخر إحصاء لوزارة الصحة، كشف أن عدد الوفيات بأمراض الكبد سنويا يبلغ 40 ألفا، منهم 6 آلاف وفاة ناتجة سرطان الكبد».