ليست الأوضاع فى مصر اليوم فى أفضل حالاتها. ووفقا لجميع المؤشرات العلمية والموضوعية، الدولية والمحلية، فإن مصر لاتزال دولة متخلفة، سبقتها فى التطور بلدان عديدة فى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، كانت حتى عقود قليلة أقل تطورا منها بكثير. وبالرغم من أن جهودا مخلصة تبذل فى بعض مجالات العمل الوطنى هنا أو هناك، فإن المحصلة لاتزال متواضعة إلى حد كبير. وعلى سبيل المثال، فإن تدهور التعليم، الذى تسارعت وتيرته فى العقدين الماضيين أصاب فى مقتل أحد أهم مصادر التقدم والتميز فى مصر المعاصرة، والفجوة المتزايدة غير المسبوقة بين الأغنياء والفقراء فيها، حيث يعيش الملايين فى مقابر وعشوائيات تحت خط الفقر بكثير، تمثل قنبلة موقوتة محتملة الانفجار فى أى وقت.. إلخ. وليس عندى أدنى شك فى أن تلك الأوضاع تعود بالدرجة الأولى إلى حالة النظام السياسى الراهن، الذى استمر حتى الآن، لما ما يزيد على نصف القرن، نظاما سلطويا غير ديمقراطى، أفلح بامتياز فى تحطيم أو إضعاف كافة المؤسسات السياسية، واستطاع بفعالية مدهشة إبعاد الغالبية العظمى من المصرين عن حلبة السياسة، بحيث تسود الآن حالة من السلبية واللامبالاة يندر أن نجد لها مثيلا فى عالم اليوم حتى فى أكثر الدول تخلفا. لذلك، فإن يقينى هو أن إصلاح الأوضاع فى مصر المعاصرة، ونقطة البدء وحجر الزاوية، فى إحداث تغيير حقيقى فيها هو تغيير النظام السياسى ليتحول من نظام سلطوى لا ديمقراطى، ضعيف الكفاءة، إلى نظام ديمقراطى حقيقى، عالى الكفاءة، ويتسم بالشفافية والنزاهة. ذلك هو الهدف الذى ينبغى أن تتوحد لإنجازه جهود كل الأحزاب والقوى السياسية، ومنظمات المجتمع المدنى، وكافة القوى الحية فى الشعب المصرى. وربما كان من حسن الحظ أنه لأول مرة خلال العهد الجمهورى، لا يعرف المصريون «نائبا للرئيس» يحل محله عند رحيله، مثلما حل السادات محل عبدالناصر، ومثلما حل مبارك محل السادات. إن ذلك الوضع يوفر فرصة لمرحلة انتقالية تسهل الإعداد لنظام ديمقراطى حقيقى تتوجه إليه مصر، وطال انتظاره كثيرا. فى هذا السياق، وفى هذا الجو السياسى العام، ومنذ عدة سنوات، خاصة مع تكوين المجلس الأعلى للسياسات وأمانة السياسات داخل الحزب الوطنى، برئاسة السيد جمال مبارك، أخذت تظهر وتتفاقم الهمسات والشائعات حول إمكانية أن يخلف السيد جمال مبارك، والده الرئيس حسنى مبارك فى منصب رئاسة الجمهورية؟!! وسرعان ما أصبحت قضية «التوريث» إحدى إن لم تكن أهم القضايا المتعلقة بالوضع السياسى الراهن فى مصر. وبدلا من أن ينشغل المصريون اليوم ببحث وتدبير كيفية التحول من النظام السلطوى الراهن إلى نظام ديمقراطى، ينشغلون اليوم أكثر وأكثر بالتساؤلات: هل سيأتى جمال مبارك؟ وكيف؟ ولماذا.. إلخ! ووسط نظام سياسى متهالك، هش المؤسسية، تصاعد نفوذ السيد جمال مبارك، وتضاعف تأثيره التنفيذى والسياسى بما يتجاوز بكثير منصبه الرسمى. ومع أنه هو نفسه لم يقرب إليه إلا أفرادا محدودين من الأثرياء، ورجال الأعمال، أو الأكاديميين والمهنيين الأقرب إلى جيله أو أصغر.. إلا أنه أضحى أيضا نقطة جذب لعديد من العناصر المنتفعة والانتهازية والمتسلقة التى تفرخها عادة البيئة السياسية غير الصحية للنظام المصرى. لقد انبرى هؤلاء جميعا يبشرون بالسيد جمال مبارك خلفا لوالده فى رئاسة الجمهورية، استنادا إلى أكثر من حجة وبرهان: فهو أولا من حقه، كأى شاب وأى رجل فى مصر، أن يتقدم للترشيح للرئاسة، وليس ذنبه أن والده هو الرئيس. وهو ثانيا شخص كفء، ذكى، ومتعلم، وجاد. وهو ثالثا تربى فى «بيت الرئاسة»، وتعلم السياسة منذ صغره! وهو رابعا «شبعان» ولن ينهب مثل آخرين؟! وهو خامسا شخصية مدنية سوف تنهى نصف قرن من حكم العسكريين. وهو سادسا الموجود على الساحة، ولا يوجد غيره؟! غير أن مثل تلك الحجج والبراهين لا علاقة لها على الإطلاق بمشكلة مصر المعاصرة، أو بالهدف الذى يسعى إليه المصريون اليوم. إن مصر لا تبحث اليوم عن رئيس أو شخص يصلح لتولى رئاسة الجمهورية، فتلك صياغة ساذجة وتافهة بل ومهينة لكل المصريين، لأن مصر بالقطع وبلا أدنى شك فيها مئات الآلاف من الرجال الأكفاء الذين يصلحون لقيادتها على أفضل وجه. والسيد جمال مبارك بمواصفاته تلك يماثل مئات الآلاف من الشباب فى سنه، الذين تزخر بهم مصر ومؤسساتها الوطنية المختلفة. إن ما تحتاج إليه مصر اليوم هو «نظام جديد»، أى نظام ديمقراطى حقيقى، مثل النظم السائدة فى العالم من حولنا، بدءا من الولاياتالمتحدة وبلاد أوروبا الغربية والهند واليابان..إلى العديد من الدول التى سبقتنا فى أمريكا اللاتينية وفى أفريقيا والشرق الأوسط! وهذا النظام هو الذى يتم من خلاله تنافس العناصر المؤهلة لتولى القيادة، ثم اختيار الشعب من خلال انتخابات حرة ونزيهة لأفضلهم. ذلك هو مناط الاعتراض على مخطط التوريث، كجريمة ترتكب فى حق الشعب المصرى، ينبغى أن يحاسب عليها كل من يضبط متلبسا بالمشاركة فيها، والدعوة إليها. فالتوريث يفترض بالضرورة إبقاء الوضع الراهن (السلطوى، الفاسد) للنظام السياسى المصرى على ما هو عليه، لأنه من خلال هذا الوضع فقط، بما فيه من مواصفات وآليات للعمل، يمكن أن تتم خطوات التوريث. وكانت أولى الخطوات التى تمت بالفعل لتطويع هذا النظام هى التعديل المشين للمادة76 من الدستور المصرى، والتى جرى تفصيلها وصياغتها لتتيح للحزب الحاكم التحكم الكامل فى شخص المرشح للرئاسة. إنها مادة فى الدستور، سوف يلاحق عارها كل من أسهم فى صياغتها وتبريرها. من ناحية ثانية، فلا يمكن أن تتم عملية التوريث إلا فقط من خلال النظم والآليات «الانتخابية» القائمة حاليا، والتى تعرفها مصر منذ الخمسينيات، والتى تتحكم من خلالها الأجهزة التنفيذية والأمنية بالكامل تقريبا فى العملية «الانتخابية» المزعومة! وهذا هو بالتحديد ما يحتاج أيضا إلى تغيير جذرى. فى هذا السياق، يبدو للأسف أن تعبير «المؤامرة» هو الأدق لوصف كثير من الإجراءات والتصرفات التى يمكن للمراقب المحايد أن يضعها تحت بند «التوريث». فالحزب الوطنى أو بتعبير أدق «الشلل» الداعمة لترشيح جمال مبارك، تتصرف بمنطق وطريقة أقرب إلى الحزب السرى من الحزب العلنى! ولا يحتاج المراقب لفطنة كبيرة لكى يدرك أن الكثير من القرارات والإجراءات التى تتخذ بخصوص النظام الانتخابى، والدوائر الانتخابية، ومقاعد المرأة، وإمكانات حل مجلس الشعب..الخ، إنما يجرى تدبيرها بالليل، وتتخذ فى ضوء ما يمكن أن يخدم مخطط التوريث أكثر مما يخدم أى مصلحة عامة. مخطط التوريث إذن جار على قدم وساق! ولكن.. هل سوف يفلح فى النهاية؟ لا أعتقد ذلك على الإطلاق، لأكثر من سبب: الأول: إن الرئيس مبارك موجود فى منصبه وباق فيه مدى الحياة، ذلك أحد الدروس الأساسية لخبرة نظام يوليو منذ أكثر من نصف قرن. فلم يترك سلفاه عبدالناصر والسادات منصبيهما إلا بالموت. أما حالة الرئيس الوحيد الذى ترك (أو بتعبير أدق، أُرغم على ترك) منصبه فى حياته، أى اللواء محمد نجيب، فهى حالة لا تشجع إطلاقا على تكرارها. فضلا عن أن شخصية الرئيس مبارك، وحذره، ودهاءه، لا تدفعه على الإطلاق لترك منصبه، ما دام فيه قلب ينبض (كما أكد ذلك بنفسه). الثانى: إنه إذا نحينا جانبا العوامل كافة، وقارنا بين شعبيتى الرئيس مبارك، وجمال مبارك، فسنجد أنه لا مجال على الإطلاق للمقارنة بينهما. فالرئيس مبارك بانتمائه إلى الطبقة الوسطى الريفية، ونشأته البسيطة المكافحة، وتاريخه العسكرى الحافل، كان قريبا من قلوب المصريين، على نحو لا يمكن أن يتوافر الآن لنجله على الإطلاق. ولا شك فى أن عنصر الشعبية أو التقبل الشعبى هو عنصر لا يمكن إغفاله، حتى فى ظروف نظام سلطوى لا ديمقراطى مثل النظام المصرى. الثالث: إن قاعدة القوة، والمصدر الفعلى للشرعية السياسية فى مصر منذ 1952 حتى الآن، هى القوات المسلحة المصرية. فرؤساء مصر الأربعة فى العهد الجمهورى (نجيب وناصر والسادات ومبارك) هم ضباط وأبناء المؤسسة العسكرية. وهذا الوضع سواء أردنا أم لم نرد لم يتغير حتى الآن، بفعل ممارسات نظام يوليو نفسه، الذى لم يفلح وبتعبير أدق: لم يرد خلق أى قوى سياسية مدنية فاعلة. ولذلك، فليس من المحتمل أن تعرف مصر رئيسا من خارج القوات المسلحة، إلا بعد فترة انتقالية تتيح إعادة بناء المؤسسات السياسية، وفى القلب منها الأحزاب السياسية. فى هذا السياق، يصعب تصور أن تمنح القوات المسلحة الشرعية، وتدين بالولاء لشخص مدنى، أهم مؤهلاته سوف تكون أنه نجل رئيس سابق؟! السبب الرابع: إن قاعدة القوة التى يفترض أن السيد جمال مبارك يستند إليها، والتى تتمثل فى بعض الشلل أو الأجنحة فى الحزب الوطنى، وبعض «رجال الأعمال»، وبعض العناصر فى بعض الأجهزة الحكومية والأمنية، إنما يرتبط موقفها غالبا بحقيقة أنه «ابن رئيس الجمهورية». فإذا انتهى هذا الوضع، فسوف يتحلل جزء كبير منها على الفور. وإذا حدث وظلت بعض بقاياها مستمرة، فسوف يكون ذلك لأسباب مصلحيه وانتهازية بحتة، لا تصمد لأى تحد حقيقى. لهذه الأسباب، وربما يوجد أيضا غيرها، أرى أن مخطط التوريث سوف يفشل، لتظل المهمة الأكثر حيوية، والأكثر جدية، المطروحة على الشعب المصرى والنخبة المصرية، هى بناء نظام سياسى ديمقراطى حقيقى فى مصر، على أنقاض نظام متآكل موشك على الانهيار.