هى لعبة بسيطة، كنّا نلعبها، رفاق مدرستى وأنا، أثناء سنوات مراهقتنا. هى لعبة بسيطة للوهلة الأولى، لكنّ العتبة هنا خادعة. ما إن يطأها الشخص، والعربى بشكل خاص، حتى لو كان مجرد مراهق يتسلّى أو يتباهى، حتى يجد نفسه وسط فراغ مهول. يتشبث بالكلمة التى يتوهمها طوق طمأنينة، تاجا لهويته ولو لبرهة، فتفلت من بين أصابعه بهباء كومة رماد. يتشبث بكلمة أخرى، وهكذا.. مع الخيارات المتتالية للكلمات، والهويات حمالة الأوجه، والأقنعة.
لماذا أتذكر الآن هذه اللعبة بالذات؟ ليس السؤال بريئا. ولماذا كنّا، نحن مجموعة الطلاب العرب فى مدرسة أمريكية فى إحدى ضواحى باريس فى مطلع التسعينات، نعتقد أن فى إنسانيتنا ما يتعارض مع عروبتنا أو إسلامنا؟ هل كان خطاب الغرب، فى محيطنا المعاش ومن خلال دراستنا، يهدد شيئا فى هوياتنا المربكة المرتبكة؟ ولماذا كنا نصر على لافتة الجنسية أحيانا، وفى أحيان أخرى نقف تحت الراية الأكبر، فنفخر بعروبتنا أو براية الإسلام دون سواها؟ كم كانت أصواتنا هى أصواتنا نحن، لا أصداء الأسلاف من القوميين والوطنيّين والمسلمين والإسلاميين والمسيحيين وأهل الطوائف والطائفيين؟ من الذى كان يلعب: نحن؟ أم موروثنا ومخاوفنا؟ وماذا لو، فى موقف افتراضى، انضم إلى لعبتنا الطفولية كل من طه حسين وسيد قطب، مثلا؟ مثلنا، كانا لفترة جوهرية من حياتيهما فى الغرب والغربة، حيث الهوية سؤال بإلحاح جرح.
لا أذكر الآن من اقترح اللعبة فى بداية الأمر، وإن كنت، وسط ضباب الذاكرة، أرجح أننى من بادر بها. لكننى أذكر تماما، كما لو أننى أرى وجوه أصحابى أمامى الآن، ذلك اليقين فى ترتيب التعريفات فى كل مرة، وتلك الحيرة الحزينة فى العيون.
•••
عن نفسى، حدث أننى رتبت التعريفات بجميع احتمالاتها. فى مرة، اخترت إنسانيتى أولا، وفى أخرى انحزت إلى عروبتى، وفى مرات أخرى رجحت إسلامى كجوهر لهويتى ووجودى. وحين كانت تصل أخبار الحرب المرعبة المخزية من وطنى لبنان، كنت أبدى لبنانيّتى على أى خيار آخر. كذلك الرفاق، كل حسب انتماءاته ولحظة السؤال واللعبة. لم نكن نتلاعب أو نجرب. كنا نجيب عن أنفسنا وعلى الآخرين بكل ما أوتينا من صدق، كما كانت اللحظة تحتم الإجابة. ولم تكن الإجابة ثابتة أبدا، وهنا كان يكمن قلقنا، فنعود إلى اللعبة، ونعاود السؤال.
الآن، وبعد مرور كل هذه السنوات على لعبتنا القديمة، أرى بوضوح ما عجزت ورفاقى عن عن إدراكه آنذاك. الإجابة متغيرة، لأن الهويات بدورها تتغير.
ما يخضع لتهديد ما فى لحظة معينة، هو ما قد يقع عليه اختيار الشخص كهوية. وكأن الهوية درع. كأنها طفل أعزل فى حمانا.
هل الهوية فعلا هذه الصدفة المغلقة؟ أم أنها اللؤلؤة التى بين كفى صدفة؟ أم هى البحر فينا، بجميع أصدافه ولآلئه، وطحالبه؟
لطالما روجت الأيديولوجيات للقشرة والسطح، للوجه الواحد للحشود، والهتاف الموحد. ولطالما استقطبت طمأنينة المجموعة والجماعة الفرد المذعور بطبيعته كذرة غبار فى هذا الكون الشاسع. وفى المقابل، لطالما حاول الإنسان أن يكون نفسه، وبصمته، وسط زحام من الأشباه والأضداد. أليست الهويّة كهذه البصمة، نتاج كل فرد وإنجازه الشخصى، وكنزه، تماما كذاكرته؟
•••
لا أعرف نهرا يدعى أنه نبعه الخالص، دون ضفافه، والصخور التى شق دربه فيها، وحواراته على طول الدرب، مع الصفصاف، ومع النجوم كما الحصى. كما أننى أجهل بوجود نهرين متطابقين.
ليست الهويات مظلات أو رايات. هوياتنا مرايانا. جلدنا وتجاربنا. ما تراكم فينا، وما ابتدعناه، من أقدارنا وخياراتنا، على امتداد الرحلة. المكان والزمان والظروف ووقعها على الفرد وكيفية تفاعله معها يحددون هويته. وبما أن كل هذه العناصر غير قابلة للتطابق، فالهويات واسعة متبدلة.
ليس البشر شوارع لتدل عليهم يافطات. وليست الأوطان حقبة بعينها أو طبقة واحدة من التراب، لنحدد ملامحها كما يحلو لنا، وبما يوافق منظورنا ومنظومتنا ومصالحنا. الناس أفرع لا تعد من بذرة الإنسان وشجرة الحياة، والشجرة هائلة، تظلل الجميع.
•••
المدهش فى كلمة «هوية» فى اللغة العربية، سواء بفتح الهاء، أو بوضع ضمّة عليها، أنها فى الحالتين «تصغير هُوّة»، «بئر»، «موضعٌ يَهْوِى مَنْ عليه، أَى يَسْقُط» (نقلا عن لسان العرب).
أيّها المتناحرون على الهويّة والهويّات، أيعقل كلّ هذا الدم والعدم، فى سبيل هاوية؟