فى أمّة من ملايين الأمّيّين كأمّتنا، لمن يكتب الشعراء المعاصرون؟ والأدباء والمفكّرون وكتّاب المقال؟ والمدوّنون الشباب؟ والمتحمّسون لفضاءات مستحدثة مثل فيس بوك وتويتر؟ فعليّا، من الذى يقرأ لنا؟ أحقّا نكتب لجميع الناس؟ وإن كان الأمر كما نأمل وندّعى، كيف والكثير من الناس يجهل الألف نفسها من أبجديّة القراءة؟ كيف والذين لا تعتبرهم الإحصائيّات العالميّة أميّين فى بقعتنا البائسة من الأرض، معظمهم بالكاد «يفكّ الخطّ»؟ ما هو أصلا مقياس العلم فى العالم العربى؟ وهل يكفى أن يعرف الإنسان كيف يكتب اسمه، بخطّ خائف وركيك، كى لا يعتبر أميّا فى القرن الواحد والعشرين؟
بين عتبة العلم المكسورة فى بلادنا، وسقف الكتابة الشاهق، كبرج عاجى، متعالٍ فى أغلب الأحيان، تمتدّ مساحة شاسعة من العدم. كيف نبدّدها؟ كيف نتبادل الكلام والآراء مع الآخرين، إخوتنا وشركاؤنا فى الأوطان، نحن الذين نسمّى بالنخبة، دون أن ننزل إليهم فى شوارعهم وحاراتهم ومساكنهم المتواضعة وعشوائيّاتهم المتشعّبة؟ أو نرفعهم معنا إلى حيث رفعتنا عواميد المدارس والجامعات والشهادات العليا والمعرفة وفنون وآفاق الكتابة؟
•••
بأناقة بجع وردى على سطح بحيرة، نحن فى بقعة مقمرة. نحن على الشرفات. ولكن ماذا عن قاع المستنقع؟ ماذا عن الدموع التى بلا نوافذ؟
لا أستثنى نفسى من الوهم الجماعيّ المهول. لطالما سحرتنى جماليّات اللغة، وانحزت إلى قاموس روحى وأحلامى، والموسيقى والإيقاع فى جملتى، إلى الكمنجات الخفيّة بين الكلمات، والنايات المثقوبة من أجل معانٍ أعمق. ولكن لم يخطر لى أبدا أن أساهم فى محو الأمّية نفسها، منهل الجهل، وأعلى الأسوار بين الآخر وبينى. كلانا سجين. الأمى على جانبه من الجهل باللغة ورموزها وقواعدها، وأنا كذلك على ضفّتى التى لا يعنيها سوى ذهب الكلام وماسات معانيه النفيسة. أليس هذا جزءا أساسيا من مسئوليّتى وواجبى الأخلاقى تجاه القارئ المفترض؟ أليس هذا هو الجسر الحقيقى الذى ينبغى أن نقطعه لنصل ونتواصل؟
•••
أتساءل: ما جدوى الكتابة والنشر فى بلاد يعجز الجزء الأكبر من مواطنيها عن فعل القراءة نفسه؟ ما قيمة قصيدة أو رواية أو مقال، حين النصّ كدمعة تتوهّم نفسها نهرا، وتهدر فى رمال لامتناهية؟ ما غاية الكتب والمواقع والبحوث، حين الذين نودّ مخاطبتهم عبر ما ندوّنه، على ضفّة أخرى، منهمكين فى ملاحقة لقمة العيش، مخدّرين بالألم وأحلام اليقظة والخرافات؟
الكتابة التى هى أداة تواصل بالدرجة الأولى، لا تصل. تصل فقط إلى الأشباه، إلى مجموعة من القرّاء المهتمّين بالشأن الثقافى والسياسى والاقتصادى والدينى. لطالما كتبنا لأنفسنا، لباقة من أصدقائنا، لدائرة ضيّقة من الأرواح والعقول التى تشبهنا، وتشعر معنا وتشعرنا بالتحقّق، فيما نحن مجرّد أسماك صغيرة فى حوض صغير، وإن بدت بعض الأسماء كبيرة ولامعة.
الكتابة التى حلمنا بها ضوءا على الأرض، لا تتعدّى مساحة ظلالنا. هى مصباح ضئيل وضامر فى اليد، وليست باقة أقمار واسعة ووارفة على البلاد والمدن والقرى والنجوع. كيف استحالت الأداة التى حلمنا بها حلّا وسفينة خلاص، إلى هذه القشّة الهزيلة العاجزة على سطح طوفان هادر؟ إنّ أشدّ الناس حاجة إلى القراءة هم العاجزون عنها. هؤلاء الأميّون فى أمّتنا، كيف نكتب لهم؟
•••
أفكّر فينا، نحن الكُتّاب، فى أمانينا ونوايانا الطيّبة، وفى العزلات التى كزنزانات فرديّة تغيّبنا تماما عن الفعل والتغيير، فتستوقفنى المفارقة بين أحلامنا المجنّحة، وأجنحتنا الورقيّة، وواقع الكُتّاب العربى، الذى لم يرتفع عن قشّ حصيرته سقف العلم فى بلادنا، إلّا لفترة وجيزة فى بعض البلاد، ولنسبة محظوظة لا تشكّل الأغلبيّة، ولا يواكب تعليم أغلبها كوكبة المتعلّمين فى البلاد الأكثر تقدّما فى العالم.
الأرقام والأعداد والنسب فى الإحصائيّات فاجعة مرعبة. لا أذكرها فى مقالى لعدم ثقتى فى مدى دقّتها. لكنّ كلّ مشاهد العالم العربى تشهد على تفشّى الجهل كمرض عضال، وتحتّم الحاجة الملحّة إلى إصلاح المناهج الدراسيّة، وتقويمها جوهريّا بما يليق بأطفال الأجيال القادمة، مواطنى المستقبل.
كأنّنا نرمّم ملمحا من وجه نهر حزين، فيما النبع يفيض بما لا يحصى من دموع فى كلّ لحظة. كأنّنا، نحن الذين نكتب باللغة العربيّة الفصحى فى هذا العصر، نعالج غصنا مكسورا، متجاهلين الجذور المعطوبة لشجرة وجودنا، وتربة الجهل، والماء والنور الشحيحين. يشغلنا الهشّ والمرهف والهامشى من أزهار الفرع، فيما الجذع أجوف وقابل للسقوط بأقلّ من ضربة فأس. تكفى نسمة، تكفى تنهيدة، لينهار الهيكل بأكمله، مهشّما رءوس الأميين العارية، والعقول التى تعتمر قبّعات العلم والإبداع على حدّ سواء.