الكتابة عن الحياة بصيغة الماضى شرخ فى جوهر الحياة، سواء كانت المرثية لإنسان أو مكان ما أو مرحلة سالفة، أو.. مجرّد لشجرة فى شارع. مثل هذه الكتابة أقل من ظل، فالظلال بطبيعتها تتقدّمنا. ولندع جانبا عيش الحياة بصيغة الماضى، فالخوض فى مثل هذا الأمر العبثى عقيم، ومضيعة لوقت أضعنا منه عقودا وقرونا كافية.
شعراء الجاهليّة، آباؤنا فى الكتابة، استهلّوا معلّقاتهم، دونما استثناء، بالوقوف على الأطلال. كان الحنين محرّضهم على الشعر، ونبع أبياتهم. هكذا انطلقوا بمقاصدكم وقصائدهم. هكذا ولد الشعر العربى، ديوان الشعر ولسانهم، من هذا الفقد. وهنا تمكن نواة عجزه عن الحاضر والحياة معا، بغياب شبه تامّ لأيّة إشارة أو تلويحة نحو المستقبل.
●●●
مقالى اليوم مرثية شجرة. شجرة فى شارع محمّد محمود فى وسط البلد فى القاهرة. شارع الأشجار الحميم، والجامعة الأمريكيّة، وبوّابتها الحديديّة الخضراء، والمكتبة المعتمة المقابلة لها على الرصيف الآخر، فى طابق تحت الأرض، يعانق الشارع والنور، عبر سلالم عتيقة. شارع محلّ «القاضي»، ومبنى المكتبة الرئيسيّة للجامعة الأمريكيّة، والكشك الأزرق الصغير فى زاوية. شارع بائع الجرائد الأسمر الطيّب، ذى النظّارة الطبيّة الواشية بقارئ نهم، ببسطته الخشبيّة فى زاوية أخرى. الشارع الذى كان يجهل جماله كثيرون، واشتهر عالميّا بمعاركه وخرابه وشهدائه ودمائهم على الأسفلت. كم تمنّيت لو أنّ شارع شبابى وذكرياتى قد حظى بهذا الضوء والإهتمام، لروعة أشجاره على الجانبين، وعصافير أرصفته الرماديّة، وبشره، أحياء ومبتسمين، كما كنت أراهم ذهابا وغيابا إلى جامعتى. وكم آلمنى أن يظهر إلى العالم محترقا مدمّرا، شبه خرابة. نتألّم للشوارع التى نحبّها، كما للأشخاص الذين نحبّهم، حين يظهرون إلى الناس والدنيا بهيئة مهزومة لا تليق بهم.
●●●
مثل ملايين العيون والدموع، تابعت أحداث محمّد محمود، بألم عميق وإحساس بالعجز، يتكرّر كلّما تكرّرت مثل الجريمة التى ارتبكت فى هذا الشارع. كما نتابع جميعا جميع المجازر، فالمُشاهد لا يملك إلّا شرف البكاء وطمأنينة الدعاء، إضافة إلى الأفق غير المسبوق للتظاهر والإعتراض الفعليّ، وإن لم يكن فعّالا فى بعض الأحيان، على الواقع وقبحه، منذ ربيع 2011 فى العالم العربى.
●●●
لكنّ ما ارتكب فى محمّد محمود كان له وقع أعمق على، فمسرح الموت هنا مكان عزيز على روحى، وله فى قلبى جذور وأغصان.
شجرة كانت صديقتى لسنوات، وكثيرا ما استظلّيت بحنانها على المارّة، وتساقطت على بعض أوراق خريفها، شاهدتها من خلف زجاج الشاشة، فى معركة لم تكن طرفا فيها، تشتعل. تشتعل كشمعة، تشتعل مثل فتيل، وتلوّح بأفرعها لمن يعرفها، وكذلك لمن يجهلها، وكأنّها تودّع العالم بأذرع نحو السماء. كأنّها تحاول أن تكون طائرا من عصافيرها، لعلّها تنجو.
تعجز الكلمات عن وصف عجزى أمام ذلك المشهد المهول. يا إلهى، لماذا ليس زجاج شاشة التليفزيون كمرآة آليس إلى بلاد العجائب، فندخل إلى مشهد الخراب ونسعف شجرة نحبّها؟ لماذا لا نستطيع أن نخترق عجزنا الجالس على كنبة، وننقذ طفلا أو عجوزا من جحيم سوريا مثلا؟ ما قيمة البصر والإدراك، دون قدرة على التدخّل الفورى، باليد، كما بالروح والعاطفة؟
قد يقول البعض: «جت على شجرة». نعم، فالشجرة شقيقة الإنسان على هذه الأرض، ومن لا يتألّم لاحتراق شجرة أو حيوان أو مكان، أو قطعة جماد حتّى، لا يدرك أنّ الحياة لا تتجزّأ، وكلّ فقد فيها فقدنا جميعا.
●●●
رحم الله شهداء محمّد محمود، وكلّ شهداء مصر والعالم العربى والعالم بأسره، العالم المأسور فى مأساته ما دام به شهداء، وضحايا وجلّادون يتبادل بعضهم الأدوار.
رحم الله شجرتى، الشجرة الرحيمة على كلّ عابر لظلّها، والطيّبة حتّى وهى فى رمادها، على عكس الطغاة، الذين يتناثر رمادهم ليواصل أذاه.
●●●
أيّها العالم الحطّاب، بغير حقّ حصدت شجرتى، وما لا يحصى من أرواح وأجساد، بعضها لأطفال كلّ ذنبهم أنّهم ولدوا فيك، أيّها الأب العاق، المبتهج بانتصارات هزليّة على قبور صغاره. أخذت من حصّة الحياة ما ليس لك، وما زلت منهمكا فى نهمك على كلّ ما نحبّ ويشبهنا. لك السطوة، وفى يدك الفأس، وفى الأخرى مطرقة، تسخر من لا جدواها المسامير والأصابع.
والأشجار فى رمادها تضحك. تضحك عميقا وعاليا. فالربيع سيليه ربيع، والحياة لن تكفّ أبدا عن أشجارها وبشرها، إلى أن تستقيم أيّها العالم، على هيئة إنسان حقيقى، الحياة أمامه أكثر من ظلّ، والحياة فى قلبه ووطنه شجرة وارفة مطمئنّة.