للأسف، لم أقرأ، بجديّة وعمق، للأديب طه حسين (1889-1973) إلّا منذ سنوات قليلة. مع أنّ ميلادى تلا منجزه المكتمل بوفاته، بعام. كيف يهمل المحظوظون، هكذا، الجواهر التى فى متناول أيديهم؟ قرأت له، فى الماضى، روايته الشهيرة (سيرته الذاتيّة) «الأيّام»، ومضت الأيّام والأعوام دون أن أتعرّف على تجربته التنويريّة مليّا. لماذا غُيِّبَ هذا الأديب الجليل عن مناهل الكثيرين منّا؟ ولماذا كنت أقرأ للعديد من مفكّرى الغرب، ولعقول عربيّة مكرّسة وممنوعة، دون أن يخطر لى فى مرّة أن ألتفت إلى حامل شعلة، وجمرة، من أمّتنا؟ ألأنّنى أنتمى إلى الجيل الذى لم يجد علامة واحدة دالّة ومفيدة على خارطة قراءاته العربيّة؟ وكيف لم أنقّب بنفسى عن نجمة وسط الضباب؟
•••
منذ بضع سنوات، نصحتنى صديقة بقراءة ثلاثيّته «حديث الأربعاء»، وعملت بالنصيحة، لثقتى بخيارات الصديقة المزكّية للكتاب المذكور، ولرغبتى الملحّة المؤجّلة فى الإطّلاع على مشروع المبدع الذى قطع رحلة مهولة وشاقّة من حصيرة كتّاب القرية إلى مقعد دكتور فى جامعة السوربون فى باريس. وتوالت إثر «حديث الأربعاء» قراءتى لأعمال طه حسين الذى، يفوتنا الجوهريّ برأيى، إن لم نقرأ له، ومعه، تراثنا.
«حديث الأربعاء» درس تأسيسىّ لأيّ قارئ للأدب العربى. هو مجموعة دروس ودراسات أدبيّة مستفيضة، مقسّمة إلى أحاديث أربعاء. كلّ حديث منها يتناول شاعرا أو أكثر، من العصر الجاهلىّ أو الأموىّ أو العباسىّ. الحديث عبارة عن شرح لقصائد الشاعر، وتحليل يعتمد المنهج العلمىّ، لبيان مواقع الجمال البيانى واللفظى فيها. هى كتابة مُحبّة بحياد نسبىّ، مضيئة دون مبالغة أو زخارف، وثاقبة دون تقصير أو تقليل من شأن شىء أو أحد، فى سبيل تحليل إرثنا من الشعر العربىّ، وهو بذرة اللغة العربيّة بالشكل الذى نعرفها عليه، ووعدها الدائم بأشجار طيّبة، وأرواح حرّة وعقول مستنيرة، على هذه الأرض القاحلة.
•••
الكتاب من أمّهات الكتب. يقرّب القارئ من الشعر القديم، ويحبّبه فيه، وبيسّطه له. وينسج له وعبره (القارئ)، الخيوط بين ما مضى، وما قد يكون أفقا لأمّة ووعيها وذائقتها. هكذا وجدته بين يدىّ، خارطة ترشدنى إلى لغتى وتراثى وجذورا لا يستقيم القلب والعقل إلّا بضفيرتها فينا.
يشعرنا الكتاب، بأسلوبه السلس المشوّق، أنّ امرئ القيس وطرفة بن العبد من أصدقائنا، وأنّنا نسافر عبر الزمن لنعيد قراءته، وقراءتنا فى أصدائه، بأصواتنا نحن، بقلوبنا الحيّة وتجاربنا، لا بأحاسيس الحنين والهلع، وإنمّا بالرغبة فى وصل الينابيع بأنهارها، لتصل ونصل إلى حداثة تشبهنا وتليق بنا.
سبقنا طه حسين بأزمنة، وما زال، وهو فى قبره، يركض أمامنا، ويدعونا بشكل مستمرّ للّحاق إلى حيث أضاء ظلّه بالمعرفة. قلمه على العروة، على العقدة، على محاولات الحلول، واحتمالاتها اللّا نهائيّة. لا يمنح قارئه يقينا، وإنّما يطمئن القلق العميق بأسئلة محرّضة على التفكير والتنوير، والتحقّق، والأسئلة.
•••
اللغة. هذا المفتاح السرىّ المشاع. المهمل والمهمّش، والمنسىّ عمدا فى حاضر بلادنا. المهان بكلّ كتابة رديئة. اللغة الوطن والهويّة والأفق لأىّ تقدّم أو محاولة وجود وتحليق. لا أحد برأيى، فى الثقافة العربيّة الحديثة، استطاع أن يبصر معضلة اللغة ويمهّد لحلول بشأنها، وأن يعمل على تفكيك ماضيها وإعادة تركيبه، كما فعل البارع الساحر طه حسين.
سيأتى يوم ويبدأ آخرون من حيث انتهى، من أجل مواصلة النور، ووصل العصور والعقول والأرواح بخيط لا تقطعه قشّة. سيأتى زمن يستعاد فيه فكر طه حسين، ويعاد طرحه، فلا توجد وسيلة أخرى للنهوض من رمادنا، ولتبديد ما تراكم عبر العقود والقرون، من جهل وتجهيل وظلم وظلام.
•••
طه حسين ليس أديبا من الماضى، كما يوهمنا كثيرون، ليدفنوا فكره وفكرته الحيّة. هو أديب من المستقبل، من الحداثة التى لا نعرف منها فى هذه البلاد سوى القشور وسلع الاستهلاك المستوردة والخوف، خوف العاجزين عن الماضى والمستقبل معا.
يقف الرجل الضرير عند الأفق فى انتظارنا. يبتسم بوجه وقور وواثق، خلف نظّارة سوداء ذات نظرة ورديّة. فرغم بطئنا الشديد فى التقدّم، ورغم أنّه ما كان ليبصرنا لو كان حيّا، إلّا أنّه على يقين من أنّنا كأمّة نزحف نحو ما بلغه، وأنّ خطواتنا على الدروب لن تزهر إلّا مرورا بنور دربه. الدرب التى بين القديم والقادم. الدرب الجسر. الدرب التى تلى النفق الذى نقف الآن وسطه، بشموع مرتجفة، على يقين بأشجار وضوء، على الطرف الآخر من عتمة أعمارنا.