ذكر الجاحظ، أن عجائب الدنيا ثلاثون أعجوبة، عشر منها فى سائر الدنيا والباقى منها فى مصر، مثل الأهرام التى رحم الله الدهر منها، وصنم أبوالهول، ومنها مدينة منف، ومنها النيل وهو أعظم عجائبها. وعن أخلاق أهلها وطبائعهم قال محمد بن أحمد بن أياس الحنفى: إن شعب مصر خص بالأفراح دون غيره من الأمم.
ويروى أن زعيم الفرنسيس وقائدهم الأكبر (نابليون بونابارت حين دخل القاهرة غازيا أبصر فى طريقه مائة عرس تزخر بالطبول والمزامير فتعجب وقال قولته المشهورة :عرفت لهذا البلد الذى لا يعرف الحزن أبدا!».
تلك كانت قاهرة زمااااان... والقاهرة هى مصر القاهرة، وهى قاهرة الفاطمين، وقاهرة المماليك، وقاهرة العثمانيين، وقاهرة الخديو إسماعيل، وباشاواته، وأهله، وطبقته، وتوابعهم من طبقات أهل مصر المحروسة، هؤلاء الذين أغنوا جنباتها بالمرح والسرور.
ودار «الشروق» هى الدار التى تبحث عن النادر من الكتب. والكتاب النادر «خبايا القاهرة» لمؤلفه «أحمد محفوظ» غير المعروف، المجهول، والذى كتب كتابه، ووصل الدار مخطوطا «ليالى القاهرة» أواخر القرن 19 وأوائل القرن العشرين، حتى منتصفه تقريبا و«خبايا القاهرة» من الكتب النادرة، القادرة على تلمس أماكن البهجة فى مدينة تنهض باحثة عن تنورها، وحداثتها، عن تلك الليالى المفعمة بالانبساط، متتبعا أماكن اللهو فيها، ومقاهى ومشارب فنانيها، ورجال السياسة، والمفكرين، والأدباء، وصناع البهجة حيث يختلط القادم من أنحاء الدنيا بأهل الوطن فيشكلون روح مدينة لا تعرف النوم!
السيد (أحمد محفوظ) المؤلف، عاش غريبا، وعندما رحل كان لم يعرفه أحد، لكنه كان يمتلك تجربة ومعرفة بهذا العالم شديد الفرادة خطها فى كتابة كاحسن ما يكون. أنه يقدم التاريخ الوجدانى لمدينة مثل القاهرة فى ذلك التاريخ.
أغلب الكتب التى تهتم بالمدن، تهتم بكتابة التاريخ السياسى، أو الاجتماعى، أو الاقتصادى أو الثقافى، «خبايا القاهرة» يرصد الحالة الوجدانية للمجتمع المصرى إبان حكم الملكية والاستعمار والاقطاع، ومظاهرها المختلفة عن الحالة الوجدانية التى لحقت بثورة 23 يوليو 1952 حيث تغيرت الأحوال، كما تغيرت المدينة، وأهلها، وجغرافيتها!
يتميز تاريخ العرب الوجدانى بازدهار المدن، وغناها، وحالة الاستقرار التى تشيع فى جنباتها على مستويات الثقافة والاقتصاد، فالحالة الوجدانية فى دمشق عهد الامويين، وبغداد إبان حكم العباسيين، وغرناطة فى الأندلس، حيث كان وصفهم الشائق لطقوس اللهو، ومجالس الشراب، ومحافل الشعر، وسهرات الليالى الملاح، كانت مادة للمؤرخين أمثال ابن بطوطة وابن إياس والجبرتى، وكل مؤرخ عاش تلك الحقب.
والقاهرة، عبر ذلك الزمن، لها حياتها الخاصة: مقاهيها، ونواديها، وفنادقها، وحياة التمثيل بمسارحها، وليالى الغناء فى مئات الأماكن التى كانت تصرح بالموسيقى والطرب، وظرف أشخاصها، وأحوالها الاجتماعية،والثورات، وغيرها من الحركة الإنسانية.
كانت تزدهر الأمكنة والحدائق عند الخليج المصرى، وخليج أمير المؤمنين حيث يرتادها الناس ليسمروا ويتنادروا، وكانت حديقة الأزبكية المكان المزدحم دائما بأهل القاهرة وزوارها.
القاهرة فى القرن الرابع عشر الميلادى بها ساحة فى حى باب اللوق، بها ملاعب للهو البرىء. وكان خلفاء الفاطميين والإيوبيين والمماليك يقتنون الجوارى المغنيات، وكانت منهن «نسب» الطبالة التى ضربت للمستنصر الفاطمى، وغنت له فأقطعها حى الفجالة كله.
فى أواخر القرن التاسع عشر نشأ حى الأزبكية بمعرفة المحتل الإنجليزى فقامت على جانبية أماكن الترفيه فى شوارع مثل كلوت بك والواسعة، ودرب عبدالخالق، وشارع التليفون أمام دار الأوبرا التى بناها الخديو إسماعيل.
مدينة أوائل القرن العشرين تعج بالغناء والسحر، فإذا جاء الليل خرج أهل القاهرة، والوافدين إليها من الريف إلى حى الأزبكية، ليرتادوا ملاهى لأصحابها من الأجانب والشوام وأهل مصر:
الالدرادو وفى شارع كلوت بك حيث تطرب السماع أسماء الكمسارية، والسيدة منيرة المهدية تغنى فى نزهة النفوس (أسمر ملك روحى).
وكانت تضئ سماء المدينة بنات من الشام وأهلها الجميلات. وأماكن اللهو هذه يرتادها الأغنياء العاطلون بالوراثة من الارستقراطية المصرية وللشوراع فى نظافتها، وترتيبها تشبه شوارع باريس، وأحياء مونمارتر ومونبرناس وشارع بيجال!
فى تلك الفترة كان الملك فؤاد يجلس فى مشرب (أجبسيان)، أيام عطلة، وكان إذا ما قدم له خبر لا يعجبه ينهض وينادى على بتاع السميط ويبتاع منه!
محافل للسرور، والبهجة، وأهل المدينة من بشوات وأفنديات يستمعون لعزف الأجنيات على آلاتهم الغربية تعزفن مقاطع من بيتهوفن وشوبان وموتسارت.
رجال يحيطون بسليم باشا السلحدار الذى يصطحبه حاشية للحماية والدفاع، ورفقة للمرح واللهو.
كانت المقاهى أماكن يجتمع فيها ذوات القوم وأغنياؤهم. مقهى نوبار ملتقى الفنانين ووجهاء الريف، وفيه يقضى سى الموسيقار عبده الحامولى أمسياته مع خليل مطران الشاعر، وسليم سركيس الصحفى.
وعلى مقهى اسبلندريار يلتقى أدباء من سوريا مثل د. إبراهيم شدوى ود. شبلى شميل. والشاعر ولى الدين يكن. كما كانت مقهى متاتيا تقع فى الازبكية بجوها الثورى، وأهمية من يجلسون عليها: جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده وسعد زغلول وإبراهيم الهلباوى والمازنى وعباس العقاد وحافظ إبراهيم.
تبرح شارع سليمان لتصل ميدان (سوارس) (مصطفى كامل الآن)، تقودك قدمك، حيث دهليز طويل يصل بك لحديقة واسعة يتوسطها نافورة بجانبها بيوت من خشب البغدادلى المشغول بأجمل الزخارف التى تزحف عليها فروع الشجر حيث يقدم لك الشاى فى مقهى صاحبه مستر «ليبتون» ملك الشاى فى العالم.
وإذا شئت أن تستروح نسيم النيل، وعبرت كوبرى قصر النيل قبل حرب 1914 فلسوف تشاهد عربات الركوب مشدودة إلى جياد مسكوفية تنتظر مستاجريها أمام مقهى (ولبانى) حيث حديقة الأندلس.
على رأس ميدان سليمان تقع مقهى «ريش»، مكان قصر الأمير محمد على المزال، حيث غنى فيها الكروان صالح عبدالحى، والشيخ أبوالعلا محمد، وتلميذته الصغيرة أم كلثوم، التى كانت تنشد التواشيح، وتلبس الملابس العربية. وبالقرب من هذا المكان يقع مقهى البسفور حيث غنى الطفل عبدالوهاب فى حضرة أمير الشعراء شوقى بك.
ولعل من أشهر ملاهى القاهرة ذلك الحين ملهى «بديعة مصابنى» مكتشفة الفنانين، رياض السنباطى، وفريد الأطرش، وتحية كاريوكا، وببا عز الدين، وتزوجت من أمير الكوميديا نجيب الريحانى.
وبعيدا فى القاهرة المعزية، حيث للتاريخ حضوره، بسنينه وأجوائه وعمائره، وتعدد أشكال الحياة الإنسانية فى دروبه، وأزقته وحواريه ومآذن مساجده التى تطل على فضاء مدينة لا تشبهها أخرى. فى حى الحسين هذا كانت تقع مقهى الفيشاوى ذائع الصيت بموائده المحجوزة. لأجانب من الوافدين للفرجة، ومحاولة التعرف على سحر هذه المدينة، التى تموج فى شهر رمضان بالأفراح والأذكار ويدور عبر دور بها الدراويش والمجاذيب وأهل الله المضروبين بالشفاعة وبركة ابن بنت النبى.
كانت القاهرة فى ذلك الزمن قد عرفت أرقى الفنادق. وكان فندق شبرد القديم من أشهر فنادق الشرق، وأقام فيه الملوك والأمراء وكبار أغنياء الدنيا، منهم على سبيل المثال: الملك فيصل الأول ملك العراق. الملك عبدالله ملك الأردن. ملك اليونان. ملك بلغاريا. أمراء البوربون. أمراؤها بسبورج. رئيس جمهورية فرنسا. مسيو كليمنصو. لويد جورج. تشرشل. ومن المدهش أن هذا الفندق قد دمره حريق غامض أثناء حريق القاهرة فى العام 1952 واستبدل، بذلك الفندق على النيل بجوار سيمراميس!
ومن محاسن تلك المدينة، فى ذلك الوقت، وفرة النوادى حيث تجتمع الارستقراطية الاجنبية، والدبلوماسية مع نساء العصر فى نادى اسبورتنج (الجزيرة الآن) بملابسهم ومظلاتهم يستروحن على شاطئ النيل فيما تصرخ اللغات من كل انحاء الارض.
وظل شيرد ناديا خاصا للانجليز حتى تحرر زمن الثورة المصرية!
لا ينسى أبناء زمان، علاقتهم بالمعمار، والقاهرة الأوروبية تتجاور مع القاهرة الإسلامية فيما يزين الشوارع فنادق سميراميس والمترو بوليتان والميناهاوس واطلانتيك فى عماد الدين ووادى الملوك وكارلتون وفيكتوريا وفنادق كلوت بك والباقى منها الآن أكلة البلى وسكنته الفئران ولم يعد يدل عليه إلا يافطة بائسة من زمن قديم!
كما ازدهرت القاهرة ذلك الحين باكتشاف فن التمثيل، وريادة المسرح، وما كان يجرى فى أوروبا يجرى هنا فى القاهرة.
أعمال شكسبير وموليير وجورج صائد شخصيا على تياترو الأوبرا.
للشوام فضل تاسيس فن التمثيل بالقاهرة على رأس هؤلاء سليمان القرداحى وسليم النقاش ويوسف خياط واسكندر فرح. واكبهم فنانو مصر العظام عزيز عيد وسلامة حجازى وجورج أبيض وسيد درويش ويوسف وهبى وفاطمة رشدى وغيرهم.
كان الزمن مواتيا:
والاقتصاد على قدر الابداع تجارة القطن تملأ الخزائن، والأقليات من الأجانب يباشرون التجارة والاستغلال، واليهود أشطر البشر فى احتلال الأسواق واحتكار الرأسمال.
وافق المدينة يدور بحكايات أم كلثوم والقصبجى وزكريا أحمد ومحمد عبدالوهاب، وفى مجالس المثقفين لطفى السيد وطه حسين وهيكل والعقاد حيث مقهى البورصة فى النهار، وريش بالليل.
والمغنى يوازى الفرح، والإنشاد هواء يتنفسه الليل.
يحكى عبدالله أباظه: مربى سى عبده الحامولى وهو من هو فى الغناء لاصحبه لنحضر ونجامل فرح بنت الشنتورى المطرب. وحين اقتربنا من الفرح كان يغنى سى محمد عثمان والناس يكادون يخرجون من أثوابهم طربا، خفت على سى عبده أن يفتضح أذا غنى بعد محمد عثمان ولم أشأ أن أصارحه ولكنى قلت له متسائلا: أتغنى بعد محمد عثمان؟!
فقال: نعم وسأغنى اللحن نفسه، فقلت فى نفس: لا حول ولا قوة إلا بالله!
وفرغ محمد عثمان وسط الضجيج والتهليل، وحضر صاحب الفرح يدعو عبده الحمولى للتفضل بالغناء فصعد التخت وغنى نفس اللحن؛ فكان والله غناء محمد عثمان كأنه نقيق الضفدع، ولم يلبث محمد عثمان أن أخرجه الغيظ عن الاتزان فصاح مشيرا إلى عبده قائلا: «بقى الراجل ده جاى يجامل ولا جاى يموتنى». ما الذى جرى لمدينة كان هذا شبهها، وكانت تشبه فى تلك الأيام بحر النيل وبركة الأزبكية والأوبرا والجامعة وشارع عماد الدين، ومغانيها المزدحمة بالمسرة؟!»