نقلا عن موقع «مصراوى» أصدرت مجموعة «أزهريون ضد تسييس الدين» بيانا هو كالآتى: «إلى كل من يعتقد أن الأحزاب الدينية «ناس بتوع ربنا» هو أمر لا مجال لمعرفته لأنه يدخل فى مجال النوايا التى لا يعلمها إلا الله». كما أضاف البيان: «أن الدين الإسلامى مقدس مطلق لا يقبل الخطأ، بينما التجارب السياسية فى أنظمة الحكم تقبل الخطأ والصواب ولا تمت للقداسة بصلة». كما أشار البيان إلى أن هذا الخلط الذى يجرى ترويجه من قبل الأحزاب الدينية بين المقدس والمدنس وبين المطلق والنسبى هو ما دفع الجماعة الأزهرية لإصدار بيانها الذى نبه إلى خطورة تسييس الدين وامتطائه للوصول إلى السلطة، معتبرين أن ذلك يمثل «أحلك الشدائد». وبناء عليه حدد البيان خمس نقاط أسماها «أسبابا إسلامية» تمنع تسييس الدين واستغلاله، وهى.. أولا: لم يعرف الإسلام صورة واحدة أو نظاما واحدا من أنظمة الحكم، وإنما عرف مقاصد الشريعة العليا وفى مقدمتها مصالح البشر، كل البشر. ثانيا: لا تقوم الدولة على الشعارات الدينية ولا الشرائع، ولكن تقوم على العدل. ثالثا: أن الإيمان ما وقر بالقلب وصدقه العمل، وليس بالمظهر. رابعا: مراعاة التخصص، فالسياسة لها أهلها وللدين أهله. خامسا: إذا فشلت التجربة السياسية التى ينسبونها للدين، ظلما وزورا، فهذا معناه فشل، وهذا هدم للدين. فالشريعة لا تحتاج إلى نظام حكم يفرض على الناس وإنما تحتاج إلى مؤمنين يطبقونها، وذلك عملا بالنص القرآنى «لا إكراه فى الدين»، و«ذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر».
ثم أشار البيان إلى نموذجين من الدول الإسلامية، الأول لدول قامت بتسييس الدين وادعت أنها تطبق الشريعة، وهى أفغانستان وإيران والسودان وهى تعانى الآن من الاستبداد والقمع والتخلف. أما النموذج الثانى فيتمثل فى تركيا وماليزيا وهى نماذج يذكرها من يطلقون على أنفسهم أنصار تطبيق الشريعة الإسلامية، فى حين أنها نماذج للدولة العلمانية، على حد ما جاء بالبيان.
وانتهى البيان قائلا: «إن معيار الاختيار هو الكفاءة وليس التدين، فلا لتسييس الدين ولا لهدم الدين».
***
إن القراءة المتعمقة لهذا البيان تكشف عن فهم متنور وعقلانى لطبيعة الدين بوجه عام، والدين الإسلامى بوجه خاص.
كما أنها تشير أيضا إلى بداية بزوغ تيار متنور داخل مؤسسة الأزهر ومختلف عن التيار التقليدى السائد، أما التنوير فمرده إلى النزعة العقلانية التى تتجلى فى إعمال العقل الناقد فى فهم النص الدينى، وعدم الاكتفاء بالفهم الحرفى، كما يتمثل فى نقطتين جوهريتين كما جاءتا بالبيان: أولا: التفرقة بين الدين باعتباره مطلقا من جهة، وأنظمة الحكم والعمل السياسى باعتبارهما نسبيين من جهة أخرى. وهذه التفرقة الجوهرية بين المطلق والنسبى لا تتعارض مع مفهوم الإسلام باعتباره دينا ودولة لأنها لا تقصى الدين عن المجتمع ولا عن حياة البشر داخل المجتمع، بل تقصيه فقط عن نظام الحكم وعن العمل السياسى الحزبى. كما أن هذه التفرقة تتسق تماما مع المفهوم الفلسفى للعلمانى كما عرفه الفيلسوف مراد وهبة فى كتابه «رباعية الديمقراطية» باعتبار أن «العلمانية هى التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق».
والعلمانية بهذا المفهوم حالة ذهنية لا تتناقض مع الدين ولا التدين، ولكنها تحتفظ لهما بمكان مقدس ومطلق فى عقل ووجدان البشر ولا تدنسهما بغمسهما فيما هو نسبى ومتغير من أمور الحياة العابرة وغير الثابتة ثبات المطلق الدينى.
ثانيا: الإشارة إلى «مقاصد الشريعة العليا» باعتبارها جوهر النظام الاجتماعى والسياسى بما تهدف إليه من تحقيق مصالح كل البشر على اختلاف أديانهم ومللهم. وهذه النقطة تكشف عن مفهوم متنور للشريعة كان قد أرسى قواعده الفيلسوف المسلم العظيم ابن رشد فى كتابه «مناهج الأدلة فى عقائد الملة» الذى كتبه استكمالا لنظريته فى تأويل النص القرآنى كما وردت فى كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، حيث يعرف التأويل بأنه «إخراج دلالة اللفظ من المعنى الحقيقى إلى المعنى المجازى». وهذا التعريف يقتضى عدم فهم النص فهما حرفيا وإنما يستلزم التفرقة بين المعنى الظاهر أى المعنى الحقيقى الحسى والمعنى الباطن المجازى. وهذا المعنى المجازى يشترط ضرورة إعمال العقل فى فهم النص القرآنى استنادا إلى قوانين التأويل.
ويكشف بيان «أزهريون ضد تسييس الدين» عن إمكانية تأسيس تيار رشدى مصرى «نسبة إلى ابن رشد» يسعى إلى استكمال مسار فكر ابن رشد العقلانى وفلسفته فى التأويل التى تم بترها منذ ثمانمائة عام على يد علماء الكلام الذين فرضوا الفهم الحرفى للقرآن وكفروا التأويل المجازى بدعوى أنه تحريف لكلام الله من جهة، وأنه لا يلائم عقل العامة من البشر ويثير الفتن بينهم ويشككهم فى دينهم من جهة أخرى. ومن ثم أحرقت كتب ابن رشد وتم نفيه لمدة عام فى قريته اليسانه فى مدينة قرطبة، ثم مات بعد عام فور عودته من منفاه.
لكن فلسفته لم تمت معه كما كان يتصور علماء الكلام من أعدائه، لكنها رحلت بعيدا إلى أوروبا حيث استقرت وأرست جذورها العميقة فى الثقافة الأوروبية من خلال المدرسة الرشدية اللاتينية التى تفجر منها الإصلاح الدينى الذى شاع وانتشر فى أنحاء البلدان الأوروبية لأنه أرسى مبدأ الفحص الحر للنص الدينى دون وصاية، وبذلك أعطى مشروعية للتأويل كما عرفه ابن رشد.
***
والسؤال الآن: أين نحن من ابن رشد وفلسفته؟
الجواب أن ابن رشد لايزال منفيا منذ ثمانمائة عام فى بلده وموطنه، وأعنى بذلك العالم العربى والإسلامى، حيث إن فلسفته فى التأويل مازالت محرمة ومجرمة، وحيث التيار السائد هو الذى ينادى بالفهم الحرفى للنص القرآنى إعمالا لمبدأ «لا اجتهاد مع النص».
والدليل على سطوة هذا التيار هو التكفير المتكرر لكل من يقترب من التأويل بدءا بالشيخ على عبدالرازق وطه حسين وانتهاء بنجيب محفوظ ونصر حامد أبوزيد، والبقية تأتى ولعلها آتية عن قريب ومتجهة نحو «أزهريون ضد تسييس الدين».
أما السؤال الآخر فهو: ما هو موقف الأزهر كمؤسسة دينية من هذه المجموعة التى نشأت من داخله، وهى مكانتهم داخل تلك المؤسسة؟
وأتساءل: هل من الممكن أن تنمو وتتطور تلك المجموعة بحيث تفرز تيارا دينيا عقلانيا متنورا يتبنى فلسفة التأويل الرشدية من جهة، كما لا ينبذ العلمانية بوصفها «لا دينية» على حد التعريف الرسمى لمؤسسة الأزهر؟
وإذا كان ذلك ممكنا، فهل من الممكن أن يظهر زعيم على نمط مارتن لوثر الذى قاد حركة الإصلاح الدينى فى أوروبا فى القرن السادس عشر بأن أعطى مشروعية للفحص الحر للنص الدينى الذى كان مقيدا ومحظورا على غير المتخصصين فى علوم الدين «كما هو حادث الآن فى مصر وفى مؤسسة الأزهر» وبذلك خرجت أوروبا من عصور الظلام الفكرى والتعصب الدينى الذى أفرز الاستبداد السياسى والاجتماعى وقاد إلى حروب طائفية.
مازال «أزهريون ضد تسييس الدين» تحت حصار المجتمع حيث إن بيانهم لم ينظر فى الصحف، لا الرسمية ولا المستقلة، كما أنه لم يلق أى إشارة من الإعلام ما عدا قناة واحدة ولفترة وجيزة.
وهذا الحصار أشبه بالحصار الذى عانى منه ابن رشد ومازال ساريا حتى الآن.
ختاما، أوجه دعوة إلى «أزهريون ضد تسييس الدين» أوجزها فى النقاط التالية:
أولا: ضرورة تجاوز اللحظة الراهنة المتمثلة فى تسييس الدين من أجل الانتخابات باعتبارها ظرفا تاريخيا عابرا، والتركيز على تأسيس تيار دينى عقلانى تنويرى يستند إلى التأويل باعتبار أن إعمال العقل أمر مشروع بل فرض من فروض الإيمان والتدين على حد قول ابن رشد.
ثانيا: أن يهدف هذا التيار الدينى إلى تأسيس حركة رشدية مصرية تقوم على فقه وفلسفة ابن رشد مع ربطهما بتغيير الثقافة الدينية فى المجتمع المصرى من أجل بث قيم العقلانية والتسامح وعدم التعصب ونبذ الجمود الفكرى.
ثالثا: دعوة علماء الأزهر، وفى مقدمتهم فضيلة الشيخ إمام الأزهر الدكتور أحمد الطيب، إلى مراجعة المناهج التعليمية الأزهرة وتنقيتها من كل مظاهر التعصب والطائفية، وفى المقدمة تصحيح مفهوم العلمانية الوارد فى مناهج الأزهر باعتباره «اللادينية» وأنه يمثل خطورة على الإسلام. ولنا فى تجربة تونس أسوة حسنة، حيث جامع الزيتونة الذى يمثل المؤسسة الدينية المستنيرة التى لا تجرم العلمانية بل تعطيها مشروعية ثقافية وسياسية إلى الحد الذى يسمح بانتخاب رئيس علمانى للدولة هو الدكتور المنصف المرزوقى جنبا إلى جنب رئيس حكومة يتزعم التيار الإسلامى السائد فى تونس، هو الشيخ راشد الغنوشى، والاثنان تزعما ثورة تونس ضد الاستبداد والفساد فى وحدة عضوية رغم الاختلاف العقائدى بينهما. فهل نطمح فى الوصول إلى ما حققته تونس؟
وهل يقبل «أزهريون ضد تسييس الدين» القيام بهذا الدور التاريخى حتى يكسر الحصار المفروض عليه وعندئذ ستتبعهم الجماهير المتعطشة إلى حرية الفكر والاعتقاد دون وصاية، وستحميهم من بطش السلطة أيا كان نوعها. وعندئذ سيكون ابن رشد قد انتصر أخيرا ونجح فى إخراجنا من الظلمات إلى النور.