رئيس الوزراء يعقد لقاءً مُوسعًا مع المستثمرين وأصحاب الشركات الناشئة    أسعار سيارات شانجان 2024 في مصر.. الأسعار والمواصفات والمزايا (التفاصيل كاملة)    برلماني: موقف مصر من القضية الفلسطينية تاريخي وراسخ    الشناوي على الدكة| تعرف على بدلاء الأهلي لمواجهة الترجي بنهائي دوري الأبطال    لفتة طيبة في مدرجات الأهلي قبل مباراة الترجي التونسي بدوري أبطال إفريقيا    صدمة جديدة ل تشواميني بسبب إصابته مع ريال مدريد    السجن المشدد 15 عاماً لمتهمة بالانضمام لخلية المنيا الإرهابية    فى حب « الزعيم»    نائب رئيس هيئة المجتمعات العمرانية يتفقد مشروعات العلمين الجديدة    إطلاق أول صندوق للطوارئ للمصريين بالخارج قريبًا    «إسرائيل.. وقرارات القمة» (1)    متحدث فتح: نتنياهو لا يريد حلاً.. وكل من يقف جانب الاحتلال سيلوث يده    دخول قانون التجنيد "المثير للجدل" حيز التنفيذ في أوكرانيا    منها تعديل الزي.. إجراءات وزارة الصحة لتحسين الصورة الذهنية عن التمريض    خطة اغتيال عادل إمام.. المُكلف بالتنفيذ يروي الكواليس    تفاصيل اجتماع وزير التعليم ومحافظ بورسعيد مع مديرى الإدارات التعليمية    الزمالك يختتم تدريباته استعداداً لمواجهة نهضة بركان في إياب نهائي الكونفدرالية    رسميا.. نافاس يبقى في إشبيلية "مدى الحياة"    نموذج إجابة امتحان اللغة العربية للصف الثالث الإعدادي محافظة الجيزة    حادثه خطيرة.. تامر حسني يطالب جمهوره بالدعاء ل جلال الزكي    من بينهم أجنبى.. التحقيقات مع تشكيل عصابى بحلوان: أوهموا ضحايهم بتغير العملة بثمن أقل    السكك الحديد تعلن تشغيل قطارات إضافية بمناسبة عيد الأضحى المبارك    خطوات مطلوبة لدعم المستثمرين والقطاع الخاص    6 عروض مجانية بإقليم القناة وسيناء الثقافي    فصائل فلسطينية تعلن استدراج قوة للاحتلال.. وقتل 5 جنود وإصابة آخرين    يوم عرفة.. ماهو دعاء النبي في هذا اليوم؟    أعراض الذبحة الصدرية عند الرجال والنساء، وما هي طرق علاجها؟    «الأوقاف» تفتتح 10 مساجد بعد تجديدها الجمعة المقبلة    19 صورة لاكتشاف نهر بجوار الهرم الأكبر.. كيف بنى المصريون القدماء حضارتهم    «الصحة» توجه نصائح هامة لمرضى الجيوب الأنفية للحماية من التقلبات الجوية    كوكا يقود تشكيل ألانيا أمام سامسون سبور في الدوري التركي    عاجل.. تقارير سعودية تكشف كواليس انتقال أحمد حجازي إلى الأهلي    بالخطوات.. طريقة الحصول على نتيجة الشهادة الابتدائية 2024    «لابيد» يأمل أن يغادر «جانتس» الحكومة الإسرائيلية.. والأخير يلقي كلمة مساء اليوم    برج الثور.. حظك اليوم السبت 18 مايو: عبر عن أفكارك    تاني تاني.. تغيير جلد ل غادة عبد الرازق وأحمد آدم    حصاد تريزيجيه مع طرابزون قبل مواجهة إسطنبول باشاك شهير فى الدوري التركي    وزير التعليم: لدينا 46 ألفًا و994 طفلًا من ذوي الهمم.. و159 ألفًا و825 بمدارس الدمج    مذكرة قواعد اللغة الفرنسية للصف الثالث الثانوي 2024.. لا يخرج عنها الامتحان    العلاج على نفقة الدولة.. صحة دمياط تقدم الدعم الطبي ل 1797 مواطن    معلومات عن متحور كورونا الجديد FLiRT .. انتشر أواخر الربيع فما أعراضه؟    حبس المتهم بسرقة مبالغ مالية من داخل مسكن في الشيخ زايد    حزب الله يعلن استهداف تجمعا لجنود الاحتلال بثكنة راميم    حكم شراء صك الأضحية بالتقسيط.. علي جمعة يوضح    هل مواقيت الحج والعمرة ثابتة بالنص أم بالاجتهاد؟ فتوى البحوث الإسلامية تجيب    مصر تنافس على لقب بطولة CIB العالم للإسكواش ب3 لاعبين في المباراة النهائية    محافظة القاهرة تنظم رحلة ل120 من ذوي القدرات الخاصة والطلبة المتفوقين لزيارة المناطق السياحية    فيلم فاصل من اللحظات اللذيذة يحتل المرتبة الثالثة في شباك التذاكر    8 تعليمات مهمة من «النقل» لقائدي القطارات على خطوط السكة الحديد    جامعة مصر للمعلوماتية.. ريادة في تطوير التعليم الفني    «الصحة»: وضع خطط عادلة لتوزيع المُكلفين الجدد من الهيئات التمريضية    مفتي الجمهورية: يجوز التبرع للمشروعات الوطنية    محافظ المنيا: استقبال القمح مستمر.. وتوريد 238 ألف طن ل"التموين"    جهود قطاع أمن المنافذ بوزارة الداخلية خلال 24 ساعة فى مواجهة جرائم التهريب ومخالفات الإجراءات الجمركية    "الإسكان": غدا.. بدء تسليم أراضي بيت الوطن بالعبور    ما حكم الرقية بالقرآن الكريم؟.. دار الإفتاء تحسم الجدل: ينبغي الحذر من الدجالين    الفصائل الفلسطينية تعلن قتل 15 جنديا إسرائيليا فى حى التنور برفح جنوبى غزة    الأرصاد: طقس الغد شديد الحرارة نهارا معتدل ليلا على أغلب الأنحاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آيةُ الدُهن البُنِّى
نشر في الشروق الجديد يوم 23 - 06 - 2011

لولاه لماتت الدببة والسناجب تجمُّدا فى بياتها الشتوى، وقضت الخفافيش فى سُبات كهوفها، وكذلك القوارض التى لا تستطيع الارتعاش فى البرد، ومثلها مواليد البشر فور خروجهم من أرحام أمهاتهم إلى الدنيا التى مهما كانت دافئة، تظل صقيعا مقارنة مع رحمة مسابح الأرحام.
معجزة ربانية اكتشف وجودها عالِم الطبيعة السويسرى «كارنود جنشر» عام 1551 عندما لفت نظره اللون البنى لذلك الدهن، لكنه لم يعرف لماذا هو بنى، وما هى وظيفته بالضبط، وهذا ما توصل إليه العلم الحديث عام 1976 مع اكتشاف بروتين «الثيرموجينين» (المولِّد للحرارة دون ارتجاف) عبر «الميتوكوندريا» التى تعمل بمثابة محطات طاقة مذهلة الدقة موجودة داخل كل الخلايا الحية، لكن وجودها يكون وفيرا ومُميَّزا فى خلايا الدهن البنى، وهذا مما يمنحه افتراق لونه عن الدهن الأبيض، إضافة لفروق أخرى تجعل منه مادة نادرة ثمينة.
خلايا الدهن الأبيض تحتوى كل واحدة منها على قطرة دهن كبيرة واحدة وعدد قليل من «الميتوكوندريا»، بينما خلايا الدهن البنى يوجد الدهن فيها على هيئة قُطيرات عديدة مُحاطة بوفرة من الميتوكوندريا بُنية اللون نظرا لكثافة وجود الحديد فيها، ثم إن اللون المُغاير لهذا الدهن يتعزز ويميل إلى الحمرة لغزارة الأوعية الدموية الدقيقة المحيطة بخلاياه، والتى تحتاج كثيرا من الأوكسجين لإتمام أكسدة من نوع خاص لتوليد طاقة حرارية من الأحماض الدهنية. ومن ثم يشكل الدهن البنى جهازا للتدفئة الداخلية يحافظ على درجة حرارة كائنات تحتاج لتدفئة خاصة فى ظروف خاصة، ولعل أكثرها خصوصية بالنسبة لنا هو حالة مواليد البشر.
إننا نولد شديدى الهشاشة فى مواجهة برد الدنيا، ونكون غير قادرين على الارتجاف الذى ينشر دفقة سريعة من الحرارة تدفئ الجسد المبترد، فجهازنا العصبى يكون غير مكتمل النمو، وعضلاتنا أضعف ما تكون، لا شعر على رءوسنا كفاية، ولا على أجسامنا غير زغب لا يُرَى، وهى حالة تجعلنا فى مواجهة التقلبات الجوية أضعف من جِراء «أقل الحيوانات شأنا» من وجهة نظر الغرور البشرى الذى نكتسبه فيما بعد!
إنها الرحمة الإلهية برُضَّع الفقراء والنازحين والمكلومين والمطرودين والمُطارَدين فى العراء وقد شملت بمكرمتها سائر رُضّع بنى الإنسان، فوهبتهم ذلك الدهن البنى إلى أن يكبروا، فنحن لا نُنصر ولا نُكرم حقا إلا بضعافنا، ومن ثم دثَّرت يد الله الرضيع البشرى بوشاح من ذلك الدهن البنى تحت جلد الظهر على امتداد النصف العلوى من العمود الفقرى وباتجاه الأكتاف. وهو دثار عجيب، لا يشكل فقط عازلا ضد البرد كما معطف الدهن العادى الذى يتراكم تحت الجلد فيما بعد، بل هو معطف حى يبث حرارة بقدرة 60 ضعف ما يبثه الدهن العادى، وبانضباط «ثيرموديناميكى» علوى تتحكم فيه غدة ما تحت المهاد فى المخ بما يفوق دقة أى سوبر كمبيوتر بشرى.
لقد أضاءت لى هذه الآية من آيات الخالق آية أخرى تجلت على الأرض فيما نحن فيه من شئون ثورتنا الأخيرة، وهى ثورة لاشك فى انطوائها على منحة سماوية ساعد الله بها من أصروا على مساعدة أنفسهم من ملايين الثائرين، وسيُخزى الله كل من يعيقون مسار صعودها ووحدتها، خاصة هؤلاء الذين يشغبون عليها مستغلين تدين المظاهر لا الضمائر، متعصبين لتشنج ما فى نفوسهم وليس فى جوهر أى دين، وهم موجودون كشوائب هائجة فى كل الطوائف وبين كل الأطياف. ولا يختلف عنهم كثيرا أسارى الأيديولوجيات الخشبية التى ماتت فى الدنيا ولم تبق إلا فى حناجرهم. أما من جعلهم الله بهذه الثورة عبرة لمن يخلفهم، فهم هؤلاء فى قمة هرم الاستبداد والفساد الساقط، الذين أكلوا بالباطل كثيرا من دهن هذه الأمة البنى الحى!
الآية التى نراها فى هؤلاء الذين خانوا الأمانة من فسدة النظام الساقط تتعلق بحالة صارخة تُماثل تماما عملية شيطانية لسرقة الدهن البنى من أجساد الرُضع، فإذا جاز لنا أن نعادل شيئا من مُقدَّرات الأرض بما يمثله الدهن البنى للرضيع، لن نجد أوضح من خزائن الطاقة الطبيعية من نفط وغاز، إضافة للأرض الزراعية وخزان المياه الجوفية فى صحرائنا الغربية، فهذه كلها موارد تُشكِّل احتياطيا مُنقذا لا يخص الحاضر فقط بل ينتمى أكثر للأجيال القادمة التى إن بزغت على هذه الأرض ووجدتها مُستنزَفة الطاقة وبائرة الخصوبة وناضبة المياه، فإن هذه الأجيال ستلقى ما يعادل الصدمة القاتلة لوليد يخرج من دفء رحم الأم إلى لطمة ابتراد العالم دون وشاح من ذلك الدهن البنى يحميه.
الجُرم هنا شيطانى ووحشى وخسيس، وهذا عين ما ارتكبه من بوَّروا الأرض الزراعية وأهدروا الأرض المعدة للاستصلاح والزراعة، ومجموعهما يزيد على 4 ملايين فدان فى عهد مبارك الذى لا بركة فيه، إضافة لتبديد ثروتنا من الغاز الطبيعى وبيعه بأرخص الأسعار لعدو لم يثبت إلا أنه عدو، مقابل رشاوى وسمسرات دنيئة لبشر أدنياء كانوا يُخسِرون الأمة 10.5 مليار جنيه فى السنة الواحدة وبإجمالى 200 مليار جنيه على مدى عشرين سنة ضمنتها صفقة حسين سالم وحسنى مبارك الآثمة مع إسرائيل.
سبعة مليارات متر مكعب سنويا من الغاز ولعقدين كاملين من الزمان تواطأ حسين سالم والرئيس المخلوع ونجله وإسرائيل على سرقتها من جسد مستقبل أولادنا واحفادنا لا لشىء إلا لإشباع النهم الشيطانى للتربح الفاحش الحرام، وها نحن نرى 27 مليون يورو من ناتج تسييل هذا الدهن البنى الذى سلخه السفلة من لحم أمتنا يدفعها مجرم واحد ككفالة للخروج من السجن فى إسبانيا مما يشى بهول ما سرقه، وهذه مجرد مفردة من حزمة شرور النظام الساقط والحزب المنحل، والتى تكونت عبر نوازع التربُّح الإجرامى على حساب الأرض التى نُهِبت والتى بوِّرت ومخزون المياه الجوفية الاستراتيجى الذى تحول الكثير منه إلى بحيرات سفه ومسابح غفلة.
إن ما يتكشَّف من خبايا عصابة المحاسيب التى عربدت فى مصر طويلا، يجعل أى شروع فى التسامح مع أفراد هذه العصابة يتراجع، ليتقدم ويترسخ مطلب القصاص العادل منهم، والذى لن يبلغ مطلق العدل أبدا لأن الجرم شنيع ووضيع، ولم يتوقف عند نهب ما مضى بل يمتد لإرباك الحاضر والتضييق على القادم، فيما القانون المتاح لا يحاسب على الجريمة ثلاث مرات حتى وهى تصيب بجرمها أجيالا عديدة فى الماضى والحاضر والمستقبل.
لا أظن أن القانون عندنا ولا القانون فى إسبانيا بقادرين على إيفاء حسين سالم ومن وراءه وأمامه ومثله حقهم فى العقاب وحقنا وحق أولادنا وأحفادنا فى العدل، وما علينا إلا الإصرار والسعى. أما المُشين حقا، فهو أن نمشى نحن، الآن، بلا وعى فى الدروب نفسها التى أهدرت دهن الأمة البنى الثمين، فنبدِّد مخزون الطاقة بتصديره تحت أى ذريعة، ونكرس تبوير ما تبقى من الأرض الزراعية والأرض القابلة للاستزراع تحت أى مُسمَّى، ونتعامل مع خزان المياه الجوفية الاستراتيجى الذى لا يتجدد بحماقة الحماس العشوائى للمشاريع «الكبرى».
هذه التحسُبات للأرض والمياه والطاقة كانت خلاصة دعوة لعالم مصرى جليل، قبطى بالمناسبة، هو الدكتور رشدى سعيد، استبق ببصيرته العلمية والوطنية والأخلاقية كل ما تمَّ من عمى، فصرخ مبكرا بضرورة الحفاظ على خصوبة الوادى بجعل أرضه الزراعية محمية طبيعية لإنتاج الطعام وإيقاف تجريفها والبناء عليها، وعدم إهدار مخزون المياه الجوفية وحصتنا المحدودة من مياه النيل جريا وراء لافتة تخضير الصحراء، واقترح بديلا عن ذلك «تصنيع الصحراء» برفد المشاريع الصناعية إلى براح رمالها، وشدَّد على عدم تصدير الطاقة لتخدم نهضة صناعية ممكنة بالمناطق عسيرة الاستزراع بالقرب من مكامن المواد الخام.
لقد قال الله فى كتابه العزيز عن مصير فرعون الذى طغى: «فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية»، وهى آية ليست موجهة للطغاة المحتملين بعد كل فرعون ساقط وحسب، بل موجهة للكافة، حتى للطيبين الغافلين كى لا يسيروا فى دروب الطغاة نفسها بعمى التسرع والاستسهال والكلفتة، ومنها عدم الانتباه للأبعاد البيئية والتأثيرات المستقبلية فى مشروعات الاستثمار القريب ومزاعم النهوض العاجل، فكل ما يُفسِد البيئة ويؤذى مستقبل أولادنا والأحفاد إنما يتجاوز الجريمة الأخلاقية إلى الجُرم الشيطانى، الذى يسلب المواليد الجدد أوشحة دهنهم البنى، فيهدر أرواحهم البريئة بلطمات قساوة الدنيا. فهل ننتبه؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.