يتمتع المجتمع السورى، كغيره من مجتمعات شرق المتوسط، بخليط عجيب من المكوِّنات الدينية و/أو القومية يجعل منه فسيفساء حقيقية.
أولا: المكونات القومية: يشكِّل العرب اليوم أكثر من 80% من مجمل المواطنين السوريين، فهم المكوِّن القومى الأكبر الذى يمنح للبلد صفته القومية. وتعزز السياسات السورية المتتابعة على الحكم فى سورية هذه الصفة القومية فاسم الدولة هو الجمهورية العربية السورية، والدستور يثبت صراحة عروبة الدولة، وتقوم الأجهزة الإيديولوجية للدولة بتكريس هذه الصفة، فتنكر كليا الأصول غير العربية للوطن السورى بل وتتجاهل وجود مكونات قومية أقلوية لا تتشارك مع العربية بخصائصها القومية الهووية كاللغة أو الثقافة أو التقاليد. فالمناهج المدرسية مثلا لا تحمل أى إشارة البتة إلى وجود مكوِّنات مثل المكوِّن الكردى والمكوِّن الأرمنى والمكوِّن الشركسى.
يمكننا فى الحقيقة التمييز بين فئتين من المكونات القومية فى المجتمع السورى: المكونات القومية المتأصلة فى المكان، والمكونات القومية المهاجرة.
1 المكونات القومية المتأصلة فى المكان: والمقصود من ذلك هو المجموعات القومية التى يعود تاريخ وجودها فى المنطقة إلى حقب بعيدة مما يجعل من الصعوبة بمكان أن نتلمس بداية هذا الوجود. هذه هى حال المكون العربى مثلا، لكنها أيضا، وبشكل أكثر وضوحا، حال الأقليات الآشورية والسريانية والكردية.
2 المكونات القومية المهاجرة: تتميز بعض الأقليات القومية الداخلة فى تكوين فسيفساء شرق المتوسط بكونها جاءت من هجرات جماعية كبيرة تمت فى لحظة زمنية معينة لشعب كامل أو لجزء من شعب، مكتمل القومية.
ثانيا: المكونات الدينية: إذا كانت منطقة شرق المتوسط غنية فى أقلياتها القومية لأنها، بالدرجة الأولى، منطقة استقطاب وعبور لأقوام جاءتها من محيطها الجغرافى، فهى غنية جدا بالتنوع الدينى لأنها المنطقة التى عرفت ولادة الديانات السماوية الثلاث، وعايشت تاريخ الصراعات والانقسامات والتغيرات التى عرفتها هذه الديانات. وقد ورثت سورية النصيب الأكبر من آثار ذلك التاريخ لأن أرضها كانت الحاضن الأكثر تأثرا به، ولا تزال تلك التأثرات ماثلة حتى يومنا هذا سواء فى مشيداتها المادية الثابتة أم فى الحياة اليومية لمواطنيها.
ففى مدينة دمشق مثلا منطقة يطيب لبعض الناس تسميتها «المثلث المقدس» لأنها تضم أكبر تجمع فى العالم، ربما بعد القدس فى فلسطين، لدور العبادة التابعة للديانات التوحيدية الثلاث فى مساحة لا تتجاوز كيلو مترا مربعا واحدا. أما فى الحياة اليومية للناس فإننا نجد أمثلة كثيرة عن تشارك أكثر من طائفة دينية بذات الطقس انطلاقا من المعتقد الدينى الخاص بكل منها.
1 المكونات الإسلامي: السُنَّة العلويون الدروز الإسماعيليون الشيعة المرشديون.
2 المكون المسيحى.
3 المكوِّن اليهودى.
إن التنوع الكبير فى المكونات الدينية فى سورية كان، ولا يزال، مصدر غنى معرفى وروحى كبير، إذ ما من شك أن الانتماء إلى هذا المكوِّن أو ذاك يعنى تملُّك ثقافة مضافة هى تلك الخاصة بالمكوِّن.
كما ما من شك أيضا أن التعايش بين ثقافات مختلفة يخفف من غلواء التعصب إذا ما أتيح لهذه الثقافات أن تنفتح على بعضها، أى أن «تتعارف». لكنه فى الوقت نفسه يصبح قنبلة موقوتة تهدد المجتمع بالتفسخ، وربما بالانقسام، إن لم تتم إدارة الاختلاف بين المكونات الدينية، والقومية أيضا، إدارة حكيمة ومسؤولة تعلى مصلحة الوطن فوق المصالح الجماعوية الضيقة، وفوق المصالح السياسية الخاصة بفئة سياسية حاكمة، وفوق النزعات التسلطية لسلطان مستبد.
إدارة التنوع
لا يعرف تاريخ سورية الحديث أزماتٍ عرقية أو طائفية مديدة أو عميقة تركت آثارا مشؤومة فى المجتمع. بل على العكس من ذلك، أخذت سورية على الدوام صورة الواحة المستقرة اجتماعيا فى قلب منطقة يستعر فيها الاقتتال الطائفى والعرقى. فهى لم تعرف الحرب الأهلية كما فى لبنان، ولا الحرب الطائفية كما فى العراق، ولا التوتر الدينى العنيف كما فى مصر، ولا الصراع العرقى الكردى العربى فى العراق، أو الكردى التركى فى تركيا. وهذه حقيقة لا مِراء فيها.
غير أنه لابد من التساؤل عمَّا إذا كانت تلك الصورة انعكاسا لواقع اجتماعى قار أم صورة مُفترَضة أُسقِطت على واقع لا يتطابق تماما معها. هل صحيح أن المجتمع السورى كان ولا يزال مجتمعا متماسكا كصخرة جرانيتية صلدة، فلا صدوع فيه تهدد «وحدته الوطنية»، أم أنه أشبه بمستنقع، صفحته راكدة لكن أعماقه موَّارة بصراعات كامنة؟
من اليسير جدا أن نتجه بأبصارنا مباشرة إلى العوامل الإقليمية والدولية لنقرأ فيها الإجابة على سؤالنا. وفى جميع الأحوال، لا يمكن لأى ذى عقل أن يستبعد دور هذه العوامل وأثرها فى الحَراكات الاجتماعية فى المنطقة.
بدءا من الاهتمام العالمى بالسيطرة على منابع النفط وبالتالى سعيها لمنع تشكل أى كيان قوى يقف عائقا فى وجه تطلعاتها الاستعمارية هذه، إلى المد الأصولى الإسلامى الذى يوقظ، حيث يمر، عصبيات وأحقاد ظننا أنها تلاشت مع الزمن، مرورا بالدور المناط بإسرائيل كرأس جسر متقدم فى إستراتيجية السيطرة على المنطقة وضرورة تقويته باستمرار عبر إضعاف أعدائه.. إلى ما هنالك من عوامل ذات تأثيرات حقيقية وفعَّالة. غير أننا نؤمن بأنه ما كان لهذه التأثيرات، ولن يكون لها، أن تنجح فى الوصول إلى غاياتها لو أنها لاقت لدى المجتمع الوقاية اللازمة لصدِّها. إننا نؤمن أن حالة من الهشاشة أصابت المجتمع فأوجدت أرضا خصبة تسمح للعوامل الخارجية باللعب فى حديقتنا الداخلية. فالتنوع سمة من سمات المنطقة، ويمكن أن يكون عامل قوة وصمود إن أُحسِنت إدارته، لكنه يصبح عامل إضعاف إن أسيئت إدارته وثمة ما يدعو إلى الاقتناع بأن هذا ما جرى فى سورية فى العقود الأخيرة، وخاصة منذ مطلع هذا القرن.
الثورة وإدارة التنوع
قدمت ثورة الكرامة السورية إطارا استثنائيا لكشف الآليات التى يتَّبعها النظام السورى فى إدارة التنوع، ولا يخفى على أى متابع يقظ لتطورات الأوضاع فى سورية كيف اجتهد هذا النظام منذ البدايات الأولى للثورة لجرها إلى موقعين رفضتهما ولا تزال ترفضهما سنة بعد انطلاقها، ألا وهما العسكرة والطائفية. وفى سياق جهده هذا مارس النظام حملة تجييش طائفى منظمة، قامت على ثلاث سياسات:
أ المطابقة بين مكوِّن دينى محدَّد (الطائفة العلوية) والنظام. وقد تولَّت أجهزة الأمن، وبشكل خاص القوات الموازية لقوات الأمن النظامية أو ما يعرف باسم الشبيحة، تنفيذ هذه السياسة القائمة على الترهيب الميدانى المصحوب بإشارات ذات مرجعية طائفية واضحة.
ب الربط بين استمرار وجود بعض المكونات الدينية فى البلاد (المسيحيون والدروز) وبقاء النظام، الذى صوَّر نفسه حاميا وحيدا للأقليات.
ت تطييف الثورة من خلال ربطها بأطراف متشددة داخل المذهب السنى (السلفيين، القاعدة).
وقد جهد النظام لإظهار التفاف المؤسسة الدينية الرسمية حوله عن طريق التركيز الإعلامى على مواقف المشايخ الموالين. لكنه، من جهة أخرى، لم يدَّخر وسعا فى وصم الثورة بالسلفية والتشدد الإسلامى. والحقيقة أن قوى سياسية وإعلامية منتشرة فى العالم الإسلامى قد ساعدت فى عملية التطييف هذه من خلال استخدامها لخطاب طائفى متشدد ضد كل ما لا ينضوى تحت العباءة السنية.
تؤكِّد السياسات التى حكمت تصرف النظام إبان الثورة ما ذكرناه عن أسلوبه فى إدارة التنوع، فهو شجَّع وقوَّى وعمَّق التصدعات الموجودة أصلا فى المجتمع. بل وعمل على نقل الاختلاف من وضع الاحتقان الكامن إلى وضع الاحتراب المعلن، والعسكرة أخطر ما فى عملية النقل هذه.
لا يكاد يمر يوم إلا ونسمع فيه عن أحداث طائفية مسلحة هنا أو هناك، ناهيك عن الخطاب الطائفى الذى صار شائعا بين الجميع.
تصورات
كيف سيتسنى للسوريين عيش تنوعاتهم على أساس قيم المساواة والتعايش والقبول بالآخر؟ إنها قضية ليست بالسهلة أبدا، فهناك ممارسات وطبائع تكرَّست خلال العقود الأربعة الماضية كما أن هناك احتقانات وأحقادا ترسخت خلال الأشهر الماضية ولا يمكن تغييرها بالنوايا وحسن الكلام وإنما تحتاج إلى جهد مشترك وإلى عمل شاق وطويل. ونعتقد أن من أولويات ما يجب عمله فى هذا الميدان:
● تفكيك النظام الطائفى (بالمعنى المذكور آنفا)
● ترسيخ المواطنة فى شتى مجالات الحياة
● وضع آليات ديمقراطية تؤمِّن مشاركة المكوِّنات المجتمعية المختلفة فى خيارات الدولة فى كل ما يخص حياة المواطنين.
● إعادة النظر فى العلاقة بين الدولة والدين بما يؤمِّن فكَّ الارتباط بينهما بشكل يضمن استقلالية الدولة عن السلطات الروحية فى المجتمع، ويمنع من جهة أخرى الدولة من أدوتة الدين واستغلاله لمصالحها.
● إعادة النظر فى بنية الدولة (الأمنوقراطية) القائمة على كلية سلطة الأجهزة الأمنية على مؤسسات الدولة والمجتمع. وكذلك إعادة النظر فى بنية الجيش وفى الوظائف المطلوبة منه.
● العمل سريعا، ومنذ الآن، على وضع نظم مناسبة، ومتكيفة مع المجتمع السورى، لتحقيق عدالة انتقالية تسمح بالعبور نحو سوريا الجديدة بأقل ما يمكن من خسائر إضافية تتهدد المجتمع السورى.
●●●
إن المرحلة التى تمر بها سورية اليوم هى من دون شك مرحلة مفصلية فى تاريخ البلاد، ولا أظن أننا نجانب الصواب إذا قلنا إن شكل إدارة التنوع الذى سينبثق عن هذه المرحلة هو الذى سيحدد إلى حد كبير شكل سوريا القادمة. فسورية غنية بتنوع ثقافاتها واختلاط شعبها. لكن لهذا الوضع وجهين متناقضين: فهو يشكل من جهة أرضا خصبة للديمقراطية والتعددية والثراء الفكرى والروحى والثقافى، ويشكل من جهة أخرى ميدانا جهنميا للاحتراب لن يخرج منه شاغلوه أحياء. الوجه الأول هو الذى يتبنى إدارة صالحة للتنوع، أما الوجه الثانى فهو الذى سيبقى يستثمر التنوع ليبقى السيد الأوحد المستبد، ولو على أكمة من الجماجم.