وليس تعصبا إسلاميا ضد المسيحية الذي يعترف بها الإسلام ويحترم رموزها ويحمي مقدساتها علي النحو الذي يعرفه الجميع. بل ان هذا التنصير الأجنبي الممنوع طالما مثل خطرا علي الكنائس المسيحية القومية التي عانت منه كثيرا فهو لا يعترف له بالإسلام ولا بالمذاهب المسيحية الشرقية. 4 أما إباحة الشريعة الإسلامية زواج المسلم بالمسيحية واليهودية ومنعها زواج المسلمة من غير المسلم فلا علاقة له بالتمييز السلبي ولا بالتعصب الديني.. وإنما مرجعه أن المسلم بحكم عقيدته يعترف بالمسيحية واليهودية ديانات سماوية ويحترم ويعظم رموزهما.. وينص قرآنه الكريم علي أن "في التوراة هدي ونور" و"في الإنجيل هدي ونور".. ومن ثم فالمسلم مؤتمر علي عقيدة زوجته المسيحية واليهودية. ومطالب دينيا باحترام عقيدتها وتمكينها من أداء شعائرها.. بينما غير المسلم لا يعترف بالإسلام دينا سماويا ولا يقدس رموزه.. ومن ثم فانه غير مطالب دينيا باحترام عقيدة المسلمة الأمر الذي يشكل مخاوف حقيقية علي عقيدتها وحريتها الدينية وإيذاء لمشاعرها إذا هي اقترنت بمن لا يعترف بدينها ولا يعظم رموز هذا الدين.. فالقضية أقرب إلي الكفاءة بين الأزواج منها إلي التعصب أو التسامح الديني. 5 أما مطالبة التقرير الأمريكي مصر بأن تسمح بالزواج بين المسلمين وأهل الديانات الوضعية غير السماوية فانها تكشف عن جهل وافتراء.. فمصر ليس بها ديانات غير سماوية. ثم ان الخلاف مع التقرير الأمريكي هنا.. وفي كثير من القضايا ليس مرده الخلاف حول "درجة الحرية والحقوق". وإنما حول "مفهوم الحرية والحقوق".. فالمرجعية الوضعية الغربية تجعل الشذوذ الجنسي وزواج المثليين مثلا من الحرية وحقوق الإنسان بينما المرجعية الدينية في الديانات السماوية الثلاث تنكر ذلك كل الإنكار.. فالخلاف هو في "مفهوم الحرية". وليس في "درجة الحرية". والغريب والخطير هو محاولة الغرب الذي يمثل 20% من البشرية فرض مفاهيمه اللادينية في الحريات والحقوق علي الأمم والحضارات الجنوبية التي تمثل 80% من البشرية التي. والتي تؤمن بأن حقوق الإنسان يجب أن تكون محكومة بحقوق الله. وبالقيم التي جاءت بها ديانات السماء. وفوق ذلك فإن الغريب وخاصة أمريكا عندما تعمل علي فرض مفاهيمها علي الآخرين إنما تخون الليبرالية التي تتشدق بها والتي تقوم علي تنوع الثقافات والحضارات وتدعو لاحترام هذا التنوع في الثقافات الوطنية. 6 كما يعبر حديث التقرير الأمريكي عن ظلم الإسلام للمرأة في الميراث.. يعبر عن جهل مركب بفلسفة الإسلام في الميراث. فالأنثي في الشريعة الإسلامية ترث مثل الذكر أو أكثر من الذكر أو ترث ولا يرث الذكر في أكثر من ثلاثين حالة من حالات الميراث بينما ترث نصف نصيب الذكر في أربعة حالات هي التي يكون العبء المالي فيها ملقي علي الذكور دون الإناث. والذين يعرفون القواعد الشرعية في الميراث يعرفون ان الإسلام يقدم الإناث علي الذكور عندما يجعل أنصبتهن في "الفروض" بينما يؤخر الذكور عندما يضع أنصبتهم في "التعصيب" أي فيما بقي بعد "الفروض". ولكنه الجعل المركب الذي انطلق منه الذين أعدوا هذا التقرير الأمريكي. 7 كما ينم حديث التقرير الأمريكي عن أوضاع المتحولين من الإسلام أو إليه عن جهل بالقيم الثقافية التي يتفق فيها الشرقيون علي اختلاف دياناتهم. ففي المجتمعات الشرقية لا ينظر إلي الدين كشأن فردي وشخصي يتم تغييره دون مشكلات بل انه يعبر عن هوية اجتماعية يماثل "العرض والشرف" وقد يعلو عليهما.. ومن ثم فإن الانسلاخ عنه والتحول منه إنما يمثل مشكلة عائلية واجتماعية.. وفي هذا يتفق الشرقيون جميعا.. وربما كان موقف الأوساط المسيحية في مصر من هذه القضية أكثر تشدداً.. والقانون في أي مجتمع من المجتمعات إنما يعبر عن الواقع الاجتماعي ليضبط حركة هذا الواقع الاجتماعي.. ودون مراعاة هذه العادات والتقاليد والقيم الدينية والاجتماعية السائدة لا يمكن للقانون أن يحقق السلام الاجتماعي. 8 وفي قضية الحجاب.. يتجاهل التقرير الأمريكي ان واقع مصر والأغلبية الساحقة فيها تعتبر قضية الزي ضمن الحريات الشخصية.. وإذ كان الغرب يعتبر حرية المرأة في الزي مقصورة علي "العري" فإن الإسلام والمسيحية واليهودية تدعو إلي الحشمة دون أن تفرض هذه الحشمة وإنما فقط تحبذها وترغب فيها.. وفي مصر تتفق الأسر المصرية علي اختلاف دياناتها في الريف الذي يمثل 85% من السكان.. وفي الأحياء الشعبية في المدن.. وفي البادية يتفقون علي الحشمة التي يسميها البعض "الحجاب". 9 وفي حديث التقرير الأمريكي عن ولاية الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية علي الشأن الديني.. وعن منعه للكتب والمطبوعات.. في هذا الحديث جهل كبير وافتراء شديد.. ذلك ان الأزهر مؤسسة من مؤسسات الدولة تستشيره الدولة في الشأن الديني كما تستشير أي مؤسسة من مؤسسات المجتمع فيما تختص به وتتخصص فيه من خبرات.. وليس من سلطة الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية منع أي كتاب من الكتب أو أي مصنف من المصنفات الفنية.. فقط يبدي رأيه الاستشاري أما منع الكتب والمصنفات الفنية في مصر فهو شأن من شئون القضاء وحده يطبق فيه القانون الوضعي الذي سنته المؤسسة التشريعية المنتخبة والممثلة للشعب علي اختلاف دياناته وتيارات الفكر فيه. 10 أما انفاق وزارة الأوقاف المصرية علي المساجد دون الكنائس فليس فيه أي تمييز سلبي.. ذلك ان وزارة الأوقاف انما تنفق علي المساجد من عائدات الأوقاف الإسلامية التي تم ضمها للدولة والتي أصبحت الوزارة ناظرة عليها.. بينما ظلت أوقاف الكنائس والأديرة والمؤسسة الدينية المسيحية قائمة تديرها الكنيسة وتنفق من عائداتها وتحقق لها الاستقلال المالي عن الدولة. 11 وليس أبلغ في الجهل والافتراء من حديث التقرير الأمريكي عن القيود التي يفرضها "الخط الهمايوي" العثماني الصادر 1856م علي بناء الكنائس بمصر.. فهذا الخط الهمايوني العثماني لم يكن في يوم من الأيام قانونا حاكما ومطبقا في مصر عندما كانت مصر ولاية عثمانية ممتازة .. ولقد تمتعت مصر باستقلال في التشريع منذ عهد محمد علي باشا الكبير في النصف الأول من القرن التاسع عشر وكل القوانين واللوائح التي نظمت عمل الطوائف المسيحية وبناء كنائسها ومثلها اللوائح المنظمة لعمل المعاهد الدينية الإسلامية جميعها منذ فجر الحياة النيابية المصرية تشريعات وتقنينات مصرية.. ولم يكن من بينها الخط الهمايوني الذي صدر عن الدولة العثمانية كإعلان للحقوق ضمن الإصلاحات الخيرية التقدمية التي ساوت بين غير المسلمين والمسلمين في عهد السلطان العثماني عبدالمجيد خان "1822 1861م" والتي ضمنت للأقليات غير المسلمة عن طريق "نظام الملل" حريات دينية واجتماعية لم يعرفها الغرب للأقليات حتي ذلك التاريخ.. بل وتفتقر إليها كثير من الأقليات في الغرب حتي هذه اللحظة. 12 وإذا كانت نسبة غير المسلمين في مصر إلي سكانها وفق وإحصاء مركز "بيو" الأمريكي هي 5.4% أي أربعة ملايين ونصف المليون .. فكيف يطلب التقرير الأمريكي زيادة عدد المسيحيين في المجلس القومي لحقوق الإنسان عن 5 من 25 هم كل أعضاء هذا المجلس؟! ان نسبتهم في هذا المجلس هي 20% بينما نسبتهم في السكان 5.4% ومع ذلك لا يرضي الأمريكان!. 13 وبخصوص قصر الدراسة بجامعة الأزهر علي الطلاب المسلمين فإن السبب في ذلك لا علاقة له بأي لون من ألوان التمييز السلبي ضد غير المسلمين أو التعصب الديني فمناهج الدراسة في جامعة الأزهر بما فيها الكليات العملية هي مناهج دينية إسلامية ومما ينافي حرية الضمير والاعتقاد فرض دراسة الدين الإسلامي في هذه الجامعة علي غير المسلمين وخاصة في المراحل العمرية الأولي.. كما ان هذا هو الوضع السائد والمتعارف عليه في معاهد اللاهوت والكليات الأمريكية المسيحية التي لا تفرض دراسة مناهجها الدينية علي غير المسيحيين.. علماً بأن جامعة الأزهر لا تقبل إلا الحاصلين علي الثانوية الأزهرية وترفض قبول الثانوية العامة ولو كان الحاصل عليها مسلماً. 14 أما عن ضعف مشاركة المسيحيين في الانتخابات النيابية فانه جزء من السلبية العامة التي أفرزتها عوامل سياسية لا علاقة لها بالتمييز السلبي ضد غير المسلمين.. كما انها في الجانب المسيحي راجعة إلي توجه المسيحيين المصريين إلي الأنشطة المالية والاقتصادية التي يمثلون فيها ثقلا ونفوذا وثراء تفوق نسبتهم العددية أضعافا مضاعفة. 15- أما حديث التقرير الأمريكي عن ذبح الخنازير تفاديا لانتشار مرض أنفلونزا الخنازير واعتبار ذلك تمييزا واضطهادا للمسيحيين!.. فإنه لون من ألوان الهزل الذي يثير السخرية.. فهذه مسألة صحية لها علاقة بالصحة العامة.. والخنازير ليس لها دين حتي يدخل ذبحها في التمييز ضد المسيحيين! 16- ثم إن حديث التقرير الأمريكي عن تدخل الإدارة الأمريكية وأعضاء الكونجرس الأمريكي والسفارة الأمريكية بالقاهرة في الشأن الداخلي المصري والتمويل والاتصالات والعلاقات الأمريكية مع بعض المسيحيين.. والبهائيين.. والشيعة.. وشهود يهوه.. والقرآنيين.. والأحباش.. وحتي النوبيين.. إنما هو اعتراف صريح بممارسة أمريكا لسياسات تفكيك النسيج الوطني والاجتماعي والثقافي للمجتمع المصري وذلك تحقيقا للمخطط الأمريكي المعلن: "الفوضي الخلاقة" الرامية إلي تحويل المجتمع إلي طوائف يسهل اختراقها.. وهو مخطط سبق ودعا إليه المستشرق الصهيوني الأمريكي "برنارد لويس" الذي دعا إلي تحول المجتمعات العربية والإسلامية إلي "فسيفساء ورقية" ليتحقق الأمن والتفوق الإسرائيلي. وأخيرا فإن مجمع البحوث الإسلامية يتساءل: - لماذا لا تكون متابعة شئون حقوق الإنسان وحرياته عالمية وإصدار التقارير السنوية عنها شأنا من شئون الشرعية الدولية والنظام الدولي الممثل في المجلس الأممي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة؟! - ولماذا تغتصب الإدارة الأمريكية اختصاصات الشرعية الدولية في هذا الميدان؟