تشهد روسيا فى 4 مارس القادم انتخابات رئاسية يترشح فيها فلاديمير بوتين الذى تولى الرئاسة مرتين: 2000 2008 ثم رئاسة الوزراء 2008 2012 وعلى الرغم من ان المراقبين يتوقعون فوز بوتين إلا إن الأمر لن يكون سهلا. فعقب إعلان ديمترى ميدفيدف فى سبتمبر 2011 أنه سوف يتبادل المواقع مع بوتين، وبعد انتخابات الدوما فى ديسمبر 2011، اندلعت احتجاجات لم تشهدها روسيا منذ انقضاء العهد السوفييتى. فقد اعتبرت هذه الاحتجاجات أن الاعلان عن ترشح بوتين هو نوع من التوريث والتلاعب بالديمقرطية وأنهم لم يستشاروا فيه بما يعنى امتهان كرامتهم، فضلا عن اتهام انتخابات الدوما وفوز حزب بوتين ميدفيدف بالتزوير، ولهذا رفعت الاحتجاجات شعار» روسيا بدون بوتين «لذلك استبق بوتين انتخابات الرئاسية بالعديد من البيانات، والمقالات الصحفية يقدم فيها نفسه من جديد إلى الناخبين الروس، وقد تضمنت هذه البيانات والمقالات ما يمكن ان نسميه الوعد، والوعيد. وقد وجه بوتين الوعد إلى المجتمع الروسى متضمنا ما يعد بتحقيقه فى فترة رئاسته الجديدة، وان يرد فيه على اتهامات المعارضة بأن فى عهده تراجعت الديمقراطية، والتضييق على المعارضين وقمعهم، والتحكم فى وسائل الإعلام فضلا عن انتشار الفساد. ●●●
إزاء هذه الاتهامات بدأ بوتين حملته الانتخابية للرئاسة وشرع فى صياغة والإعلان عن برنامجه الانتخابى، فى الخطوط العريضة لهذا البرنامج بدا بوتين وكأنه يتجاوب مع منتقديه حيث قال «يتعين علينا أن نعيد التفكير فى نظام حماية المجتمع والتخلى عن القمع المفرط والذى يشوه مجتمعنا ويجعلة منحرفا من الناحية المعنوية» ووعد بوتين انه فى فترة الرئاسية القادمة «سيتم وضع آليات حقيقية لمراقبة أنشطة السلطات من قبل المجتمع». غير ان بوتين وهو يشيد بحصيلة السنوات الاثنتى عشرة الماضية، فإنه يقر بانه لا يزال يتعين بذل جهود كثيرة مستشهدا بالقضايا التى يثيرها منتقديه مثل تعسف الدولة والفساد ومستوى الفقر ومناخ الأعمال السيئ وحجم الفساد وعدم فاعلية قسم كبير من الموظفين وعجزهم عن الاستجابة لمشكلات المواطنين. وفى إطار حملته الانتخابية كتب بوتين مقالا فى جريدة «فيدومتى» الاقتصادية الروسية، طرح فيه أهمية مكافحة الفساد الذى وصفه «بالممنهج»، واعتبر ان روسيا بحاجة إلى اقتصاد جديد يقوم على أسس اقتصاد المعرفة الذى يعتمد على التكنولوجيا الحديثة واهمية تحسين المناخ اللازم لرجال الأعمال والاستثمارات، فيما يعنى نقدا السياسات وخطط ميدفيدف، قال بوتين إن الإصلاحات التى بدأتها روسيا فى السنوات الأخيرة لتحسين المناخ الاستثمارى لم تؤد إلى تقدم ملموس. وانتقد بوتين عملية الخصخصة فى التسعينيات ووصفها بأنها «غير نزيهة»، واستخلص ان هناك حاجة إلى اجراء تغيرات جذرية فى جهاز الدولة بما فى ذلك قوام السلطتين التنفيذية والقضائية غير انه اذا كان الوعد بالإصلاح والتعامل مع ثغرات السياسة الداخلية كان من نصيب الداخل الروسى والرد على منتقدية، فإن بيانات بوتين الانتخابية قد تضمنت الوعيد للقوى الخارجية وتصعيد ضد الولاياتالمتحدة والغرب، ففى بياناته لمح بوتين لخطوات قوية تنوى موسكو اتخاذها ردا على «الخطوات الأحادية» للغرب، وانه فى حال فوزه فى انتخابات الرئاسة، لن يسمح «بالخطوات الانفرادية على الساحة العالمية والتى لا تراعى رأى روسيا ومصالحها» كما عبر بوتين فى هذه البيانات عن «اقتناعه بأنه لا يجوز تحديد قواعد اللعب فى الاقتصاد والسياسة الدولية من وراء ظهر روسيا «وبمعزل عن مصالحها».
وأن خطوات شركائنا الانفرادية التى لا تراعى رأى روسيا ومصالحها ستلقى التقويم المناسب وردنا المقابل وأكد «ان التعاون الدولى طريق ذو اتجاهين» وإن كان قد شدد «على التعاون البناء والحوار فى قضايا مكافحة الإرهاب الدولى ومنع الانتشار» وهى القضايا التى يدرك بوتين ان الغرب فى حاجة إلى تعاون روسيا فى التعامل معها.
●●●
وفيما رأى المراقبون فإن وعيد بوتين لم يقتصر على القضايا التى طفت على سطح علاقات روسيا مع الغرب خلال السنوات الاخيرة قبل الدرع الصاروخية الأمريكية وخطط توسيع حلف الاطلنطى شرقا وامن الطاقة وامداداتها والغاز الطبيعى وعلاقات روسيا مع جيرانها فى الفضاء السوفييتى السابق، وانما تجددت خلافات كانت تعد ابرز خلافات مع ادارات امريكية سابقة مثل الحريات الديمقراطية فى روسيا، وأضيف إليها الملف النووى الإيرانى والوضع فى سوريا.وحول بناء قوة روسيا العسكرية، أكد بوتين عزمه على مواصلة تعزيز القدرات العسكرية والإنفاق على الجيش وقال «ستزود القوات المسلحة بأسلحة جديدة وحديثة ...» وأعلن «أن القوات المسلحة الروسية يجب ان تكون قادرة على التصدى لأى نوع من الأخطار المحتملة والى هذه تحتاج إلى جيش وأسطول باعلى درجات التأهب للقتال والتأهيل والتحرك السريع». ولم يفت بوتين ان يذكر بأن روسيا قد «استعادت خلال السنوات الاخيرة موقعها بين القوى العالمية الرئيسية» معتبرا «أن مكانتها الحالية وقدراتها تؤهلها للعب دور أوسع وتجعل مشاركتها فى الشئون الدولية ضرورية أكثر فأكثر». وفى هذا الاتجاه نشر بوتين مقالا على موقعة الإلكترونى، وبتلميح واضح نحو الولاياتالمتحدة، اتهم بوتين دولا قال إنها تحاول تصدير الديمقراطية بالوسائل العسكرية وتوتير العلاقة بين الجماعات الاثبنية ...» وفى تأكيده على دور روسيا الدولى، قال بوتين ان موسكو تستطيع بل يجب ان تلعب دورها فى التصدى لمحاولات انتهاك القانون الدولى..»، مشيرا إلى أن هذا «أحد واجبات روسيا كدولة ذات تاريخ حافل وموضع جغرافى يفرض عليها ان تتعامل مع الحضارة الأوروبية والحضارة الشرقية على السواء».
وأخيرا فقط وفى تتويج لحملته الشديدة اللهجة على الغرب حدد بوتين فى مقالة نشرتها يوم 20 الجارى صحيفة «روسيسكايا غازيتا» الرسمية أولويات عملة كرئيس مقبل مؤكدا أن «إعادة تسليح روسيا أصبحت ضرورية لمواجهة سياسة الولاياتالمتحدة وحلف الأطلس فى مجال الدفاع الصاروخى، وما يفرض عدم تخلينا عن قدراتنا للردع الاستراتيجى والتى تشكل الضمانة الأساسية لأمتنا».
●●●
وهكذا شهدت روسيا منذ انقضاء العهد السوفييتى مرحلتين: المرحلة الاولى 1992 2000 وهى المرحلة التى حكم فيها بوريس يلستين وشهدت تراجعا فى المقومات الاقتصادية والمجتمعية والعسكرية والدولية لروسيا، وكانت المرحلة الثانية هى التى تولى فيها فلديمير بوتين الرئاسة لفترتين 2000 2008، وكان ميدفيدف امتدادا له، حيث حاولا استعادة روسيا لمقوماتها الداخلية والدولية كدولة عظمى، واليوم تدخل روسيا مرحلتها الثالثة والتى من المرجح ان يتولى فيها بوتين الرئاسة واستعدادا لذلك فهو يعد ويتوعد بإصلاح أخطاء حكمه وحكم ميدفيدف بتخفيف قبضته المركزية، ومحاربة الفساد وتراجع الديمقراطية، كما يتوعد الغرب ان لم يعامل روسيا باحترام وكقوة عظمى. فهل يحقق بوتين هذا الوعد والوعيد، ام ان الصحوة الاحتجاجية الجديدة فى المجتمع الروسى سوف تشوش على هذه المحاولات.؟