سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
150 طريقة لعشق مصر فى قاموس روبير سوليه أردت الدقة فى كتابى «الفرعون مخلوعًا 18 يومًا غيَّرت مصر» فى المنفى لا تستطيع أن تحدد إن كان الوطن هو الجنة أم أن الجنة هى الطفولة
روبير سوليه يحترف نظم الكلمات، إما فى الكتابة التاريخية أو الرواية التى تعكس عشقه لأرض مولده، أرض الفراعنة، وإما فى الصحافة الفرنسية التى صار أحد حكمائها فى جريدة لوموند الفرنسية، يكتب شريطا قصيرا ثاقبا مؤثرا مثل نكتة مصرية خالصة يلهو فيها ويهاجم ويكشف عن الزوايا التى لم يلتفت إليها أحد. هو هذا الفرنسى المصرى المولد والهوى الذى لا يعتبر نفسه نصف فرنسى نصف مصرى، بل فرنسى كاملا ومصرى كاملا، أو كما يقول مازحا «أنا خواجة مصرى» بالمعنى الجيد للكلمة. جاء إلى مصر تلبية لدعوة المعهد الفرنسى للثقافة والتعاون والمركز القومى للترجمة الذى أصدر كتابه «قاموس عاشق لمصر» باللغة العربية، ليقدم سلسلة من اللقاءات وكان ل«الشروق» معه هذا الحوار. ● كان لقاؤك بجمهور المعهد الفرنسى بالقاهرة حول صورة مصر بين الأمس واليوم فى ضوء العلاقة الفرنسية المصرية والولع الفرنسى بمسقط رأسك الذى كتبت عنه فى العديد من كتاباتك، كيف ترى هذه الصورة؟ منذ العصور القديمة يسحر هذا البلد الغرب، ويرجع هذا الولع بمصر إلى الحضارة ذاتها التى شكلها الهامونى والخلود، وكانت علاقة المصرى القديم بعالم الموتى مصدر عشق تاريخى بالحضارة الفرعونية، ثم الولع بالحضارة الإسلامية. وقد برز ولع الفرنسيين بمصر بطرق مختلفة مثل إعادة اكتشاف تاريخها وفك رموز حجر رشيد، أو عن طريق قناة السويس التى غيرت خريطة العالم، مع محاولتهم الدائمة لتجذير اللغة والثقافة الفرنسية، ثم تغير الوضع بعد 1956 و1958.
أما اليوم فقد كانت ثورة 25 يناير مفاجأة كبيرة لم يتوقعها أحد، جعلت صورة مصر تُرى بشكل إيجابى وبالبث الحى المباشر، فعلى اختلاف الثورة المصرية عن نظيراتها اليمنية أو الليبية والسورية، كان البث المباشر لوسائل الإعلام مسلطا على القاهرة وعلى ميدان التحرير على وجه الخصوص. كل هذه الأحداث اتخذت منحى ألقى الخوف فى صدور البعض. فقد عكست الثورة منذ بدايتها روح التحضر، التى أزالت الصور السلبية الجاهزة حول خضوع المصريين، فهبوا يطالبون بإسقاط رأس النظام، أو حول البلد الفوضوى، فكانت مبادرات «أنا أنظف بلدى» أبلغ دليل على التحضر منذ اليوم التالى لخلع الرئيس. وهناك شعور اليوم بعد مرور عام على الثورة، أن كل شىء يتم على نقيض منجزات الثورة مثل الوحدة الوطنية والروح الحضارية وتسييد أيديولوجيا بعينها لتتسلط على باقى الاتجاهات، وظهور كل أوجاع المجتمع، كما أن ما يحدث فى سوريا من حرب أهلية على أجىء الانفجار ينعكس سلبا على مصر بطبيعة الحال.
● نشرت كتابك «الفرعون المخلوع» فى مايو 2011 كما لو كان بثا مباشرا لأحداث الثورة بعد مضى ثلاثة شهور فقط. هل أردت الإمساك بهذه اللحظة النادرة، وهل ستكون لأحداث الثورة أثر واضح فى كتاباتك القادمة؟ ليس من طبيعتى أن أكتب عن الأحداث الساخنة بشكل مباشر، لكنى فى كتاب «الفرعون المخلوع، 18 يوما غيرت مصر» أردت أن أروى بالطريقة الأكثر دقة ووضوحا وبشكل متكامل الثمانية عشر يوما التى نجح خلالها المتظاهرون، ومعظمهم من الشباب، فى طرد المعادل المعاصر للفرعون. وأن أطرح الأسباب التى أدت إلى ذلك، بدون الحاجة إلى استشراف المستقبل، ولكن لتدقيق ما حدث. أستمر فى متابعة أحداث الثورة يوما بيوم، لأنى مستمر فى رؤية مصر من جميع زواياها وفى كل الحقب. فأنا الآن أعكف على دراسة مرحلة السادات التى كان لها أثرها العميق فى واقع اليوم. لأنى على يقين أن معالجة الحدث الآنى لا يستقيم بدون معرفة ما حدث فى 1919 أو فى 1952 حتى نفهم ثورة اليوم، فأنا لست مختصا فى علم المصريات أو فى العلوم الاجتماعية أو الاقتصاد، لكنى مهتم بمعرفة كل شىء، منشغل بمصر بلا حدود، بكل الموضوعات المتعلقة بها وبكل الحقب التى مرت بها، وكلما عملت بشكل مكثف وأضفت قطعة جديدة من قطع البازل كلما شعرت أنى لا أعرف تماما هذا البلد، وأشعر أن عمرى كاملا لن يكفى لكل هذه الاكتشافات.
● يبدو أن هذا العشق بدأ متأخرا مع نشر روايتك الشهيرة «الطربوش» فى 1992 بعد أن كان حلم فرنسا قد تحقق. ما الذى فجر الولع المصرى لكاتب معروف بالأساس ككاتب فرنسى؟ تلك حكاية طويلة، فأنا ولدت فى مصر، وتمتعت بطفولة سعيدة، وفى سن السابعة عشرة سافرت إلى فرنسا مع أسرتى المصرية ذات الأصول الشامية، ضمن حركة عامة لعائلات مثل عائلتى، وهى أسرة مسيحية فرنكفونية. تحقق الحلم الفرنسى وطويت هذه الصفحة تماما على مدى عشرين عاما، حتى ظهرت من جديد على السطح، يجوز لأن طفولتى كانت سعيدة جدا، ويجوز لأن المنفى كان مؤلما. فحين تسافر فى هذه المرحلة من العمر لا تدرك الأمر جيدا، فى المنفى لا تستطيع أن تحدد إن كان الوطن هو الجنة أم أن الجنة هى الطفولة، ولا تدرك إن كان الحنين للزمن الجميل أم للبلد الذى تبدل حاله.
ثم جاء يوم شعرت بحاجتى لأن أنظر إلى الوراء وأرى آثار خطواتى، وأن أفهم لماذا أصر أهلى أن يدفنوا فى مصر، ولماذا كانوا هكذا فى حال جيدة فى مصر، واكتشفت ذلك من خلال كتابة الرواية، فكانت «الطربوش» قصة متخيلة عن أسرة تشبه أسرتى، وهكذا أعدت العلاقة المفقودة مع مصر ولاقت الرواية نجاحا كبيرا. ومن بعدها اشتغلت طويلا فى التحضير لرواياتى حتى انتهيت بكتابة العديد من الكتابات التاريخية، فقد صارت مصر مصدر دراستى الدائم. فكتبت عن كل شىء، حيث لا تستهوينى فقط مرحلة القرن التاسع عشر أو مصر الفرعونية، لكنى معنى أيضا بمصر اليوم والغد.
● بدا مسقط رأسك هو البطل فى مجمل أعمالك الفكرية والإبداعية، ما الذى يخص كتاب «قاموس عاشق لمصر» من هذا العشق؟ صدر هذا الكتاب منذ عشر سنوات موجها للقارئ الفرنسى ليرى مصر بعيونى، لكنى لاحظت إقبال المصريين عليه أيضا. وهو ضمن سلسلة من القواميس صدرت فى فرنسا يطرح فيها كاتبها عشقه لبلد ما أو لهواية ما، فاخترت أنا مائة وخمسين كلمة بدونها لا تكون مصر كما هى فى نظرى. فأنا لا أتخيل مصر بدون مآذنها وأديرتها، بدون رجل فكر مثل طه حسين أو نجيب محفوظ، أو مكان مثل هليوبوليس الذى نشأت فيه، أو بدون الفول المدمس الذى أتناوله فور وصولى القاهرة، أو كلمة «معلهش» التى تعبر فى حد ذاتها عن التناقض العميق بين إحالتها السلبية إلى انعدام الإرادة وبين إشارتها للحضارة والوسطية والاعتدال. لكنى لم أضع فى قاموسى فقط الأشياء التى أحبها فى مصر، بل أيضا ما لا أحبه، مثل «التعصب الدينى» أو «المرور»، ومن خلال تعبيرى عما يغضبنى وما أرفضه فى هذا البلد، أجد نفسى أكثر مصرية. وكتبت فى مقدمة الكتاب أن بسبب حبى لمصر واحترامى للمصريين فإن صفحات القاموس ليست كلها إعجابا، وإنما بها ما يدعو إلى القلق مثل إتلاف تراث البلاد وثرواتها الطبيعية، والتعصب الدينى والتعدى على الحريات.
روبير سوليه
ولد فى القاهرة فى 14 سبتمبر 1946. تعلم فى مدارس «الجيزويت» اليسوعيين بالقاهرة وسافر إلى فرنسا فى 1964 ودرس الصحافة فى كلية الصحافة بمدينة ليل الفرنسية. وعمل فى الصحافة منذ أربعين عاما شغل عدة مناصب فى جريدة لوموند الفرنسية كرئيس تحرير ومدير ملحق الكتب بالجريدة المرموقة، وكان مراسلا لها فى روما وفى واشنطن، وعكف يكتب عمودا صغيرا فى صفحاتها الأخيرة من 2006 إلى 2011، تم جمعها فى كتاب يضم 180 عمودا تتميز بالدقة والتفرد والكتابة اللاذعة بعنوان «شرائط» فى مطلع العام.
لمحات من قاموس عاشق لمصر
قاموس من نوع خاص يجمع بين الأدب والمدخل المعرفى والروح الساخرة، ترجمه إلى العربية عادل أسعد الميرى وأصدره المركز القومى للترجمة
أى مدينة أخرى فى العالم يمكنها أن تهز مشاعرى، مثلما تفعلين أنت يا هليوبوليس؟ عشت فيك حتى السابعة عشرة، أجمل سنوات العمر، وجريت فى شوارعك فى كل الاتجاهات، على القدمين أو بالدراجة، آلاف المرات، كل شارع من شوارعك يرتبط فى ذهنى بصور، لايزال بعضها واضحا تماما، ولكن بعضها الآخر بهتت ملامحه ثم زالت. لقد توسعت جدا يا مدينة طفولتى ومراهقتى بشكل غير معقول. لقد تحملت الكثير من الاعتداءات التى وقعت عليك، وفقدت الكثير من أصدقائك، حتى إنك أصبحت غير تلك التى كنت أعرفها، تلك التى أكاد لا أميزها.