هذا قاموس فريد.. كتبه روبير سوليه المؤرخ والكاتب الفرنسي الشهير الذي عاش طفولته وصدر شبابه في رحاب مصر.. تشكل وعيه الأول هنا في هذا البلد العريق. أحب روبير الطفل والمراهق كل تفاصيل حياته في مصر.. غادرها بصحبة أسرته في سن السابعة عشرة, ولكن بقي حبه وانتماؤه الأول لضفاف مصر. هو عاشق لها بلا حدود.. فخور بعشقه هذا.. يجهر به أينما كان: في صفحات كتبه ومؤلفاته ومقالاته ولقاءاته الصحفية المختلفة. كتب رواية( الانتماء الضائع) أو( الطربوش) عام1992, وهي أقرب إلي السيرة الذاتية يحكي عبر سطورها قصة أسرته المسيحية ذات الأصول السورية اللبنانية التي حضرت إلي دمياط عام1860 هربا من أحداث دموية ومذابح وقعت في مدينة دمشق في ظل الاحتلال العثماني. يتتبع هنا سوليه مسار ثلاث عائلات عاشت في ربوع مصر في أزمنة مختلفة وأحياء مختلفة كذلك.. من سنة1860 إلي سنة..1960 من حي شبرا حينما كان يوما هادئا تحف به الأشجار من الجانبين في أواخر القرن التاسع عشر إلي فيللا في حي جاردن سيتي الأنيق في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولي والثانية إلي فيللات ضاحية مصر الجديدة التي ازدهرت وكانت تحفة معمارية رائعة جذبت لها الأنظار ليس فقط لجمالها ولكن أيضا لنقاء جوها الجاف. عاش سوليه هنا.. في هذه الضاحية الأنيقة.. اختلط بناسها وسكانها.. وغمر الحب قلبه الصغير لهذا البلد. يقول في مقدمة كتابه: كانت مصر كونا بلا حدود.. ممتلئة بالحماسة وخلو البال, حيث تعلم أناس من انتماءات مختلفة كيف يعيشون معا: مسلمون وأقباط ويهود, أرمن ويونانيون وإيطاليون وفرنسيون وشوام. وفي مقطع آخر كتب يقول في وصف مصر: أنا لا أتخيلها في الواقع بدون مآذنها وأديرتها.. بدون رجل فكر مثل طه حسين أو مدينة مثل هليوبوليس, أو وجبة مثل الفول, أو حيوان مثل الجاموسة, أو بدون عبارة معلهش. سيجد القارئ عبر سطور هذا القاموس البديع القاهرة ماثلة أمام عينيه بكل ماضيها وحاضرها.. وكأن سوليه( يتسكع) في شوارعها وأزقاتها وحواريها.. يرصد ملاحظاته ويدون انطباعاته ويبوح بمشاعره من واقع حبه وتعلقه بهذا البلد وواقع هذه الازدواجية الخلاقة التي أثرت روحه وكيانه( فرنسي مسيحي من أصل سوري لبناني عاش في رحاب مصر) وجعلته يري مصر بعيون مختلفة.. عيون يسكنها الحب ويغمرها العشق. مائة وأربعة وأربعون مقالا أو مدخلا لهذا القاموس.. من توت عنخ آمون ورمسيس الثاني إلي عبدالناصر وأنور السادات وحسني مبارك, ومن المشربيات ومآذن المساجد إلي وجوه الفيوم وأديرة المسيحية, ومن نجيب محفوظ إلي عمر الشريف. بونابرت وفندق شبرد والمدن المصرية الجديدة.. إلي جوار الأهرامات وحجر رشيد ورباعية الإسكندرية.. النيل والنوبة والمومياوات مع الخبز ونخيل البلح وروق البردي.. الساقية وسقارة وشجرة الجميز والطربوش والحجاب.. الموسيقي والمتاحف.. وجريدة البروجريه المصرية ودافيد روبرتس و السان سيمونييون. شم النسيم.. السينما المصرية.. القطن المصري.. المرور.. شاملبيون.. مقاهي القاهرة.. مكتبة الإسكندرية.. والعديد والعديد من المداخل والمقدمات التي عاصرتها بلادنا والتي تشكل هنا مشاهد بديعة رسمها الكاتب بقلمه العذب. حدوتة مصرية قديمة وحديثة معا تتبدي عبر كلمات القاموس الذي أعده سوليه بعيون المحب والعاشق والتي أتاحت له أيضا أن يرصد عبره بعض السلبيات التي يعانيها مجتمعنا المصري مثل تبديد تراث بلادنا وثرواتنا الطبيعية والتعصب الديني والتعدي علي الحريات وختان البنات وغيرها.. الكتاب من تقديم وترجمة عادل أسعد الميري. صادر عن المركز القومي للترجمة.