كان الثوار من قادة ثورة 1919 يرون أنه إذا تحقق الاستقلال السياسى الكامل، وخرج المحتل البريطانى من البلاد، فإن كل مشكلات الوطن سوف تجد طريقها إلى الحل، وسوف يتحقق التقدم بالعقول الحرة لأبناء الوطن ولم يكن أحد يستطيع أن يجادل فى هذا المدخل السياسى الذى هو مدخل صحيح جزئيا بأكثر من معنى ولكن كان هناك مداخل أخرى. مثل تلك التى تبناها رجال من طراز طلعت حرب (1867 1940) الذى كان يرى أنه «لكى يتم الاستقلال السياسى فإنه من الضرورى أن تتوافر للوطن إمكانات التحرر الاقتصادى التى ترسى دعائم اقتصادية وطنية، يستطيع الوطن أن يواجه بها الاحتياجات التى سوف يجتازها فى مراحل نضاله مع الاستعمار.. تغذى كفاحه وتدعمه وتمنحه الصلابة وقوة الصمود» وكان منطق طلعت حرب بسيطا وواضحا فى هذا الاتجاه، وقائما على وعى بالتاريخ الاقتصادى للوطن فى علاقته بالقوى الاستعمارية التى ظلت تحول دون الوطن وتمام استقلاله الاقتصادى. ومن ثم السياسى، منذ تسوية لندن سنة 1840. وهى التسوية التى ألزمت محمد على بتنفيذ المعاهدات المبرمة بين السلطان والدول الأوروبية، وفى مقدمتها معاهدة يالطه ليمان التى خلقت الظروف الموضوعية الملائمة التى كانت وراء نمو النفوذ الاستعمارى الأوروبى فى مصر نموا سرطانيا، فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وكانت نتيجة ذلك فتح الباب على مصراعيه أمام الاحتكارات الأوروبية فى عهد سعيد وإسماعيل، فيما يقول رءوف عباس الذى يرى أنه ترتب على ذلك احتدام التنافس بين القوى الإمبريالية حول تدعيم مراكزها السياسية فى مصر. وتصدير رءوس الأموال إليها، وزيادة حجم جالياتها، وتوسيع نشاطها الاقتصادى، والاستحواذ لرعاياها على أكبر قدر ممكن من الوظائف الحكومية، فضلا عن النهب المنظم لثروات البلاد عن طريق بنوكها التى ظلت تسيطر على رأس المال الوطنى. وتقدم القروض للفلاحين بشروط مجحفة، كى تستولى على أراضيهم، وتتحكم فى مسار الاقتصاد الزراعى الذى كان يقوم على تجارة القطن التى احتكرها الأجانب، وهيمنوا بها على السوق المصرية، ومن ثم على الوطن بأسره. وقد أدركت الطبقة الوسطى، فى عهد إسماعيل، هذه الحقيقة، خصوصا فى المناقشات التى دارت فى مجلس شورى النواب، فى دورة انعقاد 1879، وتقدم النائبان محمود العطار وعبدالسلام المويلحى بعريضة إلى المجلس أشارا فيها إلى هيمنة رأس المال الأجنبى على السوق المصرية، لكن دون تقديم حل جذرى وقد جاء الحل فى المذكرة التى أعدها أمين شميل وقدمها إلى الخديو، مقترحا إنشاء بنك وطنى، يتم تغطية رأسماله خلال سنوات ثلاث. يقوم خلالها حملة الأسهم بسداد رأس المال على ستة أقساط، ويكون حق شراء الأسهم للمصريين وحدهم، وتكون الإدارة وطنية تماما، ومستقلة بذاتها، كى لا تتدخل فى عملها سلطة خارجية وتحمس الخديو إسماعيل للمشروع الذى لم يخرج إلى الوجود لتطور الأحداث. وعزل الخديو وتولية الإنجليز ابنه توفيق لكن الفكرة لم تمت، خصوصا فى حماسة الالتفاف حول شعار «مصر للمصريين» ولذلك تقدم حسن الشمسى بمبادرته لتأسيس بنك وطنى برأس مال مصرى تماما، يقرض الأموال للفلاحين بفوائد معتدلة، وتتولى إدارته عناصر وطنية، تدعمها حكومة، تصدر تعليماتها بقصر التعامل مع هذا البنك، ولم تكن المبادرة بعيدة عن مشروع أمين شميل. بل امتدادا وتوسيعا له، ولكن كان عدم التنفيذ حظ المبادرة والمشروع على السواء، فقد استعمرت إنجلترا الوطن سنة 1882، وبدأت مصر عهدا جديدا من الاستعمار الذى سمح بالمزيد من الهيمنة، والاستيلاء على الثروة المصرية، وذلك على نحو لم تستطع القوى الوطنية التصدى الجذرى له، فقد كانت القيادات الوطنية تستند إلى ملكيات زراعية بالدرجة الأولى ولم تكن منشغلة بالنشاط التجارى أو الصناعى لكن وازعها الوطنى عاود الظهور. وترددت من جديد الدعوة إلى إنشاء بنك وطنى للإفلات من التبعية الاقتصادية لإنجلترا بوجه خاص وأوروبا بوجه عام وتلح فكرة «البنك الوطنى» على الظهور مع الأزمة الاقتصادية التى ضربت البلاد سنة 1907. ويتحدث عن الفكرة عمر لطفى عضو الحزب الوطنى، ووكيل كلية الحقوق فى محاضراته التى ألقاها فى نادى المدارس العليا، ابتداء من نوفمبر 1908، خصوصا فى محاضراته عن نظام التعاون والتسليف فى ألمانيا وإيطاليا، موضحا القواعد التى تسير عليها جمعيات شركات التعاون وظل عمر لطفى يؤكد، فى محاضراته، فى مدن القطر. أهمية المحافظة على مستقبل البلاد الاقتصادى بإنشاء بنك وطنى قائم على رءوس أموال وطنية وقد دعمه فى ذلك رجال الاستنارة من أمثال حفنى ناصف الذى قام بالتمييز بين الفائدة والربا، كى يقضى على الأفكار المتشددة دينيا. يقصد إلى تلك التى كان يرددها بعض الذين رأوا فى فكرة البنوك الحديثة نوعا من بدع الضلالة التى تنشأ عن تقليد الأجانب والواقع أنه بفضل رجال من طراز حفنى ناصف أصبح الطريق ممهدا لإنشاء بنك وطنى يقوم على نظام الفائدة الذى لا يدخل فى أنواع الربا. واكتمل الوازع الوطنى لإنشاء البنك الوطنى مع اللجنة التحضيرية للمؤتمر المصرى المنعقد فى التاسع والعشرين من أبريل سنة 1911، وقد أكد تقرير اللجنة أن ضرورة إصلاح الحالة الاقتصادية تستلزم التخلص من سيطرة البيوت المالية الأجنبية على السوق المصرية، ولا يتحقق ذلك إلا بإنشاء «بنك مصرى» يعتمد على رءوس أموال مصرية خالصة. وكان قرار إنشاء البنك فى مقدمة القرارات الاقتصادية التى صدرت عن المؤتمر، فيما يقول رءوف عباس الذى يضيف أنه تقرر إيفاد طلعت حرب إلى أوروبا لدراسة نظم البنوك بها، ووضع مشروع للبنك المصرى على أساس علمى يتفق مع الظروف الاقتصادية للبلاد وسافر طلعت حرب، موفدا من المؤتمر، وعاد محملا بالخبرة اللازمة لتحقيق حلمه القديم، خصوصا أنه كان أحد المتحمسين لإنشاء «بنك مصرى وطنى» وقد كتب عن ذلك بالصحف سنة 1907، إبان الأزمة الاقتصادية، ويعاود الكتابة سنة 1911، وعندما يعود من الخارج، يصدر كتابه «علاج مصر الاقتصادى ومشروع بنك المصريين أو بنك الأمة» سنة 1913 مؤكدا أهمية إنشاء بنك وطنى، ومؤصلا لفكرته على السواء وقد صدر الكتاب بالفعل. وظل وثيقة تاريخية على إسهامه المبكر فى حلم إنشاء بنك وطنى، يكون سبيلا إلى الاستقلال الاقتصادى الذى هو السبيل إلى التحرر السياسى، إذ لا معنى لاستقلال سياسى لا يعتمد على استقلال اقتصادى وقد نشر مركز تاريخ مصر المعاصر التابع لدار الكتب والوثائق القومية كتاب «علاج مصر الاقتصادى ومشروع بنك المصريين أو بنك الأمة» مع دراسة عميقة للدكتور رءوف عباس سنة 2002 وهى دراسة تكشف عن أن فكرة إنشاء بنك وطنى كانت حلما متكررا من أحلام الطبقة الوسطى الوطنية فى مصر. وأن طلعت حرب وعى هذه الأحلام، وأعاد صياغتها فى كتابه الذى يشبه كتاب قاسم أمين عن «تحرير المرأة» فى هذا الجانب، فقاسم أمين لم يكن أول من كتب عن ضرورة تحرير المرأة من القيود البالية، ويصوغ نموذج «المرأة الجديدة» فى الكتاب الذى يحمل هذا العنوان، وإنما كان عمله الفكرى نتيجة لأعمال سابقة، وتنظير متكامل للقضية التى تتابع الإسهام فيها طوال النصف الثانى من القرن التاسع عشر. والطريف أن طلعت حرب وقف معارضا بشدة أفكار قاسم أمين عن تحرير المرأة، وذلك بما كتبه عن «تربية المرأة والحجاب» و«فصل الخطاب فى المرأة والحجاب» وكان، مثل أقران له، يخاف الدعوة إلى سفور المرأة ويكرهها، لأنه كان يتصور أنها دعوة مرتبطة بالاستعمار، وثيقة الصلة بأفكار اللورد كرومر ألد أعداء الإسلام والقضية المصرية، وأن مثل هذه الأفكار. عندما ترد إلى من يشجعها، تتكشف عن دعوة معادية للإسلام، وصادرة برضا من لا يمكن أن يضمر للإسلام خيرا، ولا يهمه من أمر المرأة المسلمة إلا أن تتأكد سلطتهم على مصر، وأن تقوم الفتن التى تمزق وحدة الوطنيين والمؤكد أن هذا النوع من التفكير مبنى على مقدمات باطلة، وسوء ظن متأصل فى طبيعة المرأة ولكن صاحب هذا التفكير المحافظ الذى عادى الدعوة إلى السفور سنة 1898 حين صدر كتاب «تحرير المرأة». وسنة 1901حين صدر كتاب «المرأة الجديدة» لم يستمر على فكره الرجعى حول المرأة، فقد انقلب عليه تماما مع أحداث ثورة 1919، وهجره إلى الأبد بعد أن شاهد مظاهرات المرأة المصرية وتضحياتها بحياتها فى سبيل الاستقلال التام، أو الموت الزؤام، ومن المؤكد أن أسس فكره الرجعى عن المرأة قد أخذت فى التخلخل ابتداء من سنة 1911 عند ذهابه إلى أوروبا لدراسة نظم البنوك بها. تمهيدا لوضع مشروع لبنك وطنى حديث، وأن ما بقى من هذه الأسس قد أطاح به الدور الذى نهضت به المرأة خلال ثورة 1919 التى تغلغلت فى كيانه، ونفضت عن وعيه بقايا فكره المحافظ، وفتحت أفقه الفكرى لوعى مختلف بالدور الجذرى الذى تقوم به «المرأة الجديدة» التى حلم قاسم أمين بإسهامها الحتمى، فى بناء المستقبل المتقدم لوطنه، حتى فى مجال التحرر الاقتصادى للوطن الذى وهبه حياته. واعيا كل الوعى بأهمية الاقتصاد فى حاضره ومستقبله ولا غرابة، والأمر كذلك، فى أن يبدأ طلعت حرب المتخرج فى مدرسة الحقوق الخديوية بالعمل فى خدمة إدارة الدومين من سنة 1888 إلى سنة 1905، عندما ترك الخدمة الحكومية، وفضل أن يشتغل فى إدارة الأعمال، سواء لبعض كبار الملاك الزراعيين أو الشركات التجارية، ويظل يعمل فى إدارة أعمال غيره إلى أن يسهم مع بعض الممولين المصريين فى تأسيس شركة صغيرة باسم «بنك التضامن المالى» سنة 1909 ويتغير اسمها فى العام اللاحق ليصبح «الشركة التعاونية التجارية للائتمان» ويسهم، خلال ذلك. فى الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية، قبل الحرب العالمية الأولى، فيغدو وطنيا من مدرسة مصطفى كامل التى يتركها إلى حزب «الأمة» يكتب فى صحيفته «الجريدة» معبرا عن أفكاره فى كل هموم الوطن، وعلى رأسها الاقتصاد الذى رأى فى استقلاله الخطوة الحتمية لتحقيق الاستقلال السياسى، ومن ثم جلاء الاستعمار البريطانى الذى جثم طويلا على النفوس ومن هذا المنظور، يصدر كتابه «علاج مصر الاقتصادى ومشروع بنك المصريين أو بنك الأمة» وعندما تنتهى الحرب العالمية الأولى التى أصدر قبلها كتابه، وتفضى أوضاع مصر كلها إلى ثورة 1919. يندمج فيها بكل وجدانه، ويمسه لهيبها الذى يدفعه إلى العمل الثورى على طريقته، فيدعو إلى تأسيس بنك مصر فى أغسطس 1919، محققا الحلم المتكرر القديم للحركة الوطنية وتجد الدعوة تأييدا وتعضيدا من طبقات الشعب فى العواصم والأقاليم، وتتكلل الدعوة بالنجاح، ويتأسس البنك سنة 1920، كأنه الثمرة الاقتصادية للثورة، فيما يقول عبدالرحمن الرافعى ويشيد طلعت حرب بنيان البنك على أساس قوى متين، إذ جعله بنكا وطنيا بكل معانى الكلمة. واشترط فى عقد تأسيسه أن يكون حملة أسهمه من المصريين، كى يكفل له الصبغة الوطنية والاستقلال عن البنوك الأجنبية التى تصب عائد استثمار الأموال المصرية فى بلادها وكانت لغة البنك اللغة العربية، لا اللغة الأجنبية أيا كانت، وذلك لتأكيد هوية بنك مصر، وتدريبا للمصريين على التعامل بلغتهم فى الجوانب الاقتصادية. وكان العاملون فى البنك من المصريين الذين أرسل طلعت حرب الشباب منهم إلى التعلم فى الخارج، ولم يستعن من الأجانب إلا بأقل عدد ممكن تحت أعين الإدارة المصرية، وفى مدى تحقيق أهدافها الوطنية. ويكتتب 126 مصريا فقط بمبلغ ثمانين ألفا من الجنيهات، واستكملت الإجراءات الشكلية التى يستلزمها القانون المدنى لإنشاء شركة مساهمة، وفى اليوم السابع من مايو 1920، فى سياق احتدام الثورة، اجتمعت الجمعية العمومية للمساهمين، ووقف طلعت حرب يخطب فيهم، قائلا: «إن فكرة تأسيس بنك مصر برءوس أموال مصرية، يعمل لمصلحة مصر قبل كل مصلحة سواها، ليست بالحديثة، بل هى فكرة قديمة. قد أراد الله تحقيقها الآن فى أنسب الأوقات وأوفق الظروف، فما علينا إلا أن نشمر عن ساعد الجد والإخلاص للسير به إلى الأمام، ففى البلاد أموال عظيمة، بعضها مخزون معطل، وبعضها فى بنوك أجنبية، وكلاهما لا تستفيد البلاد منه شيئا مذكورا» وكان رأسمال المساهمين متواضعا فى البداية، لكنه تضاعف أكثر من مرة، حين انتقل البنك من مبناه الأول بشارع أبوالسباع إلى شارع محمد فريد وكان اسمه عماد الدين فى ذلك الزمان وتوسع البنك فأنشأ فروعا له فى معظم المدن الرئيسية وانتقل طلعت حرب من الخطوة التأسيسية بنجاح ليبدأ الخطوة المترتبة عليها والمكملة لها. وهى الإسهام فى تطوير النهضة الصناعية والتجارية التى هى الوجه الملازم لوطنية رأسمال البنك التى لم تكف عن التزايد، نتيجة إيمان المصريين بفكرة البنك الذى نجح فى إثبات حضوره فى مواجهة البنوك الأجنبية، والإسهام الفاعل فى جوانب النهضة التى جعلها البنك واعدة إلى أبعد حد. وكانت النتيجة إنشاء شركات بنك مصر وأولاها الشركات التى أحيت وحدّثت صناعة الغزل والنسيج التى لها تاريخ قديم، وتطويرها بما يجعل لمنتجات القطن المصرى، وما ينزل منزلتها، حضورا محليا وعالميا، ومنها شركة مصر لحليج الأقطان سنة 1924، والشركة المصرية العقارية سنة 1926، وشركة مصر لغزل ونسج القطن بالمحلة الكبرى سنة 1927، ومعها شركة مصر للكتان فى العام نفسه، وشركة مصر لغزل ونسج القطن الرفيع فى كفر الدوار سنة 1938،. وأخيرا شركة مصر للحرير الصناعى سنة 1937 وأضيف إلى ذلك شركات مصر للتمثيل والسينما سنة 1927، وتصدير الأقطان 1930، ومصايد الأسماك سنة 1927، وبيع المصنوعات المصرية 1932، والطيران فى العام نفسه، ومصر للتأمين والملاحة البحرية والسياحة 1934، ودباغة وصناعة الجلود فى السنة نفسها. وقد أسهمت هذه الشركات إسهاما جذريا فى تنشيط عوالم الصناعة والتجارة، وحررت جانبا غير قليل للاقتصاد الوطنى من التبعية الأجنبية، وأسهمت فى تكوين كوادر تقنية وفنية وإدارية لازمة لاستمرار صعود الاقتصاد الوطنى بكل جوانبه، فأوفدت البعثات الفنية إلى أوروبا لإكساب الشباب المصرى خبرة جديدة فى مجالات هذه الشركات ودفعت الرأسمالية المصرية إلى التقليد والمنافسة. ومن ثم استثمار أموالهم فى الصناعة والتجارة والملاحة والفنون ومن اللافت للانتباه أن يهتم طلعت حرب بإنشاء شركة مصر للتمثيل والسينما لتوسيع أفق موهبة أمثال عزيزة أمير وأم كلثوم وأسمهان، ودعم الجيل الجديد من الممثلين والممثلات والمخرجين، بما يدفع الكثيرين إلى الاستمرار فى هذا المجال لتتألق «المرأة الجديدة» على الشاشة الفضية، وينفسح الفضاء أمام المخرجين الجدد، أمثال محمد كريم ومحمد بيومى وتسهم هذه الشركات. فضلا عن ذلك، فى تغيير العلاقات الاجتماعية والقيم الفكرية التى نتجت عنها، خصوصا فى المدى الذى يؤدى فيه تغير أدوات الإنتاج إلى تغير علاقات الإنتاج، ومن ثم القيم الاجتماعية والثقافية وأعرف، شخصيا، ما حدث فى مدينتى «المحلة الكبرى» على وجه التحديد، حيث انتقل اقتصاد غزل ونسج القطن من الأنوال اليدوية إلى الماكينات الصناعية. ومن الإنتاج المحدود إلى الإنتاج الضخم، وذلك فى موازاة ما ساعدت عليه الأرباح من توفير مساكن عصرية للعاملين فى مدينة خاصة بها، لا تخلو من المشفى والمدرسة والمسجد، وتحول أصحاب الجلابيب الزرقاء من الفلاحين إلى أفندية عمال وأسطوات ميكانيكية أصبحوا النموذج المفضل للأسر لتحقيق الحياة المريحة لبناتهم ولم تغفل الشركة النشاط الرياضى والترفيهى الذى اقترن بالنادى الرياضى والسينمات والمسارح، وقس على ذلك غيره الذى أحدث أعمق الأثر فى أنساق الوعى الاجتماعى والثقافى والفنى فى كل مكان وصلت إليه شركات بنك مصر التى كان لها فضل تخريج المرأة الأولى فى ممارسة الطيران، تلك التى سرعان ما لحق بها غيرها وأخيرا، هناك البعد القومى الذى وصل القاهرة بغيرها من العواصم العربية، واستهل حضورها المركزى بين غيرها من أقطار العالم العربى. وكان منطق طلعت حرب فى الرد على من انتقدوا الإيقاع المتسارع لإنشاء شركات بنك مصر أن العصر عصر سرعة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ويعقب فتحى رضوان، فى كتابه عن طلعت حرب، بأن الدليل على صحة ما ذهب إليه طلعت حرب هو ما طرأ على رأس مال هذه الشركات من زيادة دالة فى عدد قليل من السنوات وكان دليله على ذلك هو المركز المالى لهذه الشركات حتى سنة 1945، أى بعد وفاة طلعت حرب بأربع سنوات ففى سنة 1922 تأسست شركة مطبعة مصر برأسمال قدره خمسة آلاف جنيه زيد حتى أصبح خمسين ألفا. وفى سنة 1924 تأسست شركة مصر لحلج الأقطان برأس مال قدره ثلاثون ألف جنيه زيد إلى مائة وخمسين ألفا. وفى سنة 1927 تأسست شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى برأسمال قدره ثلاثمائة ألف جنيه زيد إلى مليون جنيه، إلى جانب سندات أصدرتها الشركة على ثلاث دفعات، تبلغ قيمتها مليون جنيه، تستهلك فى كل عام، وقس على هذه الشركات غيرها الذى كان نجاحه يؤكد صدق حدس طلعت حرب. وعبقرية تفكيره الذى كان يتميز بشمول النظرة وعمقها، فضلا عن نظرته المستقبلية التى جعلته يرى غرس البذرة التى زرعها، كما لو كان يطالع الغيب، مدركا ما سوف تكون عليه البذرة فى المستقبل، حين تصبح شجرة وارفة الظلال، يانعة الثمار ولذلك كان من حق طلعت حرب أن يبتهج فى الاحتفال بمرور خمسة عشر عاما على إنشاء بنك مصر فى السابع من مايو سنة 1935، حين يعلن الأرقام التالية فى سنة 1920 بدأ بنك مصر برأسمال قدره ثمانون ألفا، بعدها بخمس سنوات وصل رأسمال البنك إلى نصف المليون. وفى سنة 1927 وصل إلى مليون وفى 1920 كان عدد المساهمين 26 فارتفع إلى 9356 سنة 1934وبلغت قيمة الأرباح الموزعة خلال خمسة عشر عاما ثمانمائة وأربعة عشر ألفا، وارتفعت الودائع من مائتى ألف، فى آخر سنة 1920، إلى خمسة ملايين ونصف فى آخر 1927، ثم عشرة ملايين سنة 1934 وقس على ذلك غيره من الأرقام التى تذكرها الكتب التى تؤرخ لإنجاز طلعت حرب. وكان طلعت حرب، فى كل هذه الإنجازات، مفكرا يصدر عن رؤية وطنية، تتمسك بجذورها المصرية، فى الوقت الذى لا تتردد فى الاستفادة من كل منجزات العالم الغربى الحديث، ما ظلت هذه الإفادة مبقية على هويته الوطنية وكان مثله الأعلى فى ذلك اليابانيين الذين اقتبسوا من أمم الغرب أشهى ثمرات العلوم والفنون، غير أن عقليتهم بقيت يابانية، وثقافتهم ثقافة يابانية. مشتركة مع الأممالغربية فى الأصول الثابتة من رأسمال البشرية العقلى العام ولذلك يقول، متحدثا إلى الطلبة المصريين فى فرنسا «نريد عقلية مصرية متشابهة فى سموها مع أسمى الأمم ثقافة، نريدها عقلية مصرية مستقلة، عقلية هى وليدة ماضينا الذى لا مفر من الخروج من تأثيره فينا، ووليدة حاضرنا الذى نسعى إلى أن نربطه بماضينا، كما نسعى أن نقوده ونسيّره إلى مستقبل أحسن» ولذلك كان طلعت حرب، فيما يقول فتحى رضوان، أشبه بغاندى. فغاندى كان يقول إنه يفتح نوافذ حجرته لكل ما يهب من رياح، ولكنه يأبى أن تقتلع أقدامه ريحا واحدة، شمالية أو جنوبية، شرقية أو غربية، وتذهب به فى وجهتها وهذا هو نفس ما دعا إليه طلعت حرب، حين قال إن علينا إيفاد أولادنا إلى كل بلد ننتظر منه علما نافعا، أو تجربة مجدية، شريطة أن نحتفظ بالعقلية المصرية المصبوغة بخواص الذكاء المصرى. والمرآة الصادقة للحَسَن من الطبع المصرى ولهذا ظل مؤمنا بأهمية الثقافة الوطنية بالمعنى المنفتح، ودفعه هذا الإيمان إلى تأسيس شركة مصر للتمثيل والسينما وتحدث فى يومى 29 و30 مارس سنة 1927 بمناسبة عرض باكورة إنتاج شركة مصر للتمثيل والسينما. فذكر ما يتصل بالطبيعة المصرية وآثارها الفرعونية والإسلامية التى هى مثال للفن الرفيع الذى ينبغى أن يستلهمه الفن المصرى فى كل مجالاته التى تتوسل بالكلمة والصورة، لكى يخرج هذا الفن مصريا بكل معنى الكلمة.