المسافة الحدودية بين الصومال وكينيا صارت مكتظة بشواهد مئات القبور، لأطفال وعجائز لم يستطيعوا تحمل مشقة الطريق فى صحراء، وآخرين وقعوا ضحايا للصوص؛ سرقوا منهم الماء وكل ما يملكون وتركوهم للموت. هنا، فى هذه المساحة تحديدا، شهدت «الشروق» لحظة وصول آلاف الأسر الصومالية الناجية من الموت، بعد نجاحهم فى اجتياز الصحراء الشرقية لكينيا سيرا على الأقدام، أو فى شاحنات تقلهم إلى اقرب نقطة حدودية عند مدخل إقليم داداب.. هؤلاء نجوا من الموت، لكنهم عايشوا تجارب لا تقل قسوة عن الموت نفسه.
«الشروق» التقتهم حفاة عراة كما ولدتهم أمهاتهم، بعد أن تجردوا من ملابسهم وطعامهم الضنين، وقليل من الماء احتفظوا به لأطفالهم، تحت تهديد سلاح قطاع الطرق.
فارح على خير (46 عاما) كان واحدا ممن نجوا بمعجزة، «حملت سلاحى فى وجههم عندما حاول أحدهم الاعتداء على زوجتى» هكذا حكى لنا.
فقد فارح أسنانه الأمامية بعد معركته مع اللصوص، وفقد أيضا بقرته الوحيدة التى بقيت من مزرعة كبيرة كان يرعاها، لكنه لحسن الحظ نجح فى إبعادهم عن أسرته المكونة من 7 أفراد، وبعد أن قضى 4 أيام سيرا متواصلا على الأقدام وصل إلى مخيمات اللاجئين، واستقر فى دقحلى منذ أسبوع تقريبا، لكنه لم يتسلم أية أطعمة ولا مياه، فقط استلم «كوبونا» يعتمد عليه مكتب الإغاثة الدائمة فى إحصاء وتسليم الغذاء والملبس وسائر المعونات للاجئين، يتألم فارح قائلا: «جئت إلى هنا حتى لا أدفن أطفالى الجوعى فى الصحراء».
فيما تفتقد التقارير الحقوقية الصادرة عن الأممالمتحدة القدرة على تقدير أرقام الوفيات الناتجة عن العنف فى الطريق إلى المخيمات، لكن منظمة OCHA تقول فى صدر تقريرها عن برامج الحماية أنها تستهدف 1.6 مليون شخص بمن فيهم النازحون الصوماليون، والناجون من العنف الطائفى والأهلى.
أسرة فاطمة فوظوظ حسين (64 عاما) كانت أوفر أسر المخيم الجديد حظا، وهى تشكر الله كثيرا قائلة «سلمنا الله من اللصوص فى الطريق»، استأجرت أسرة فاطمة سيارة بآخر ما تبقى لها من أموال، وقطعت 5 أيام فى الصحراء، السيارة تركتهم قرب الحدود الكينية واستطاعوا عبور مسافة 50 كم فقط سيرا حتى مخيم «حقردير»، فور وصولها توجهت وأسرتها إلى مقر الأممالمتحدة، وسجلت بياناتها وبيانات أسرتها وحصلت على «كوبون»، إلا أنها انتظرت 5 أيام حتى وصلت أول مساعدة لها مكونة من 2ك سكر و10ك دقيق وماء وأوان للطبخ.
فرتون عبدى مودا سيدة أخرى تروى لنا مأساة أكبر؛ إذ هربت وقريتها كلها من المسلحين فى حركة الشباب، وتقول: «فرضوا علينا فى المدينة حكومة من عندهم، فقررنا الهرب»، تنتمى فرتون لقرية بولاحاجى الواقعة فى شمال كيسمايو أكبر موانئ الصومال على البحر الأحمر وتعتمد بولاحاجى على الرعى كوسيلة لكسب عيشها، وحين داهمها الجفاف ونفقت معظم ماشيتهم قرروا اللجوء إلى مخيمات داداب.
الطريق إلى داداب
لكن الطريق إلى داداب كان أطول مما تخيلته هذه القرية التى قررت الرحيل فجأة، إذ استغرق 14 يوما من السير على الأقدام، وتقول فرتون : «سرنا حتى بدون نعال تحمى أقدامنا من وعورة الطريق، نحمل أطفالنا على أكتافنا» بكت وهى تخبرنا أن قريتها كانت أسرة واحدة كبيرة «تشتتت ونفقت ماشيتها على الطريق».
العدد الكبير للنازحين من قرية فرتون لم يحمهم من اللصوص، ولم يحفظ لصغارهم الماء، إذ سلبتهم العصابات المسلحة بعد معركة صغيرة على الطريق كل ما يملكون، وتقول فرتون :«سرقوا منا حتى الماء الذى كنا ندخره للأطفال».
وأثرت موجة الجفاف والمجاعة فى الصومال منذ بداية العام الحالى على حياة 3.7 مليون صومالى، وتسببت فى زيادة حالات النزوح الداخلى وإلى مخيمات اللاجئين بشكل ضخم بحثا عن المساعدات الأساسية للبقاء على قيد الحياة، ويشير مكتب الأممالمتحدة لشئون اللاجئين إلى أن 1.7 مليون شخص مشردون بسبب الجفاف، وهو ما يعادل 50% من الصوماليين المهددين بالأزمة، وطبقا للتقرير الصادر فى منتصف أغسطس فإن نحو ربع سكان الصومال وهم 1.8 مليون شخص اقتلعوا من قراهم منذ بداية العام الجارى.
وتشير منظمة الأممالمتحدة إلى أن عددا كبيرا من الأشخاص يموتون فى حوادث قتال بين العشائر داخل الأراضى الصومالية (على سبيل المثال مات 100 شخص فى مدينة جيدو بعد نزاع عنيف بين الحكومة الصومالية وقوات حركة الشباب فى بداية سبتمبر الماضى) وتؤكد المنظمة أنها تحاول التعامل مع مثل هذه الحوادث عبر إنقاذ المصابين وتوفير الرعاية الصحية لهم.
يحكى الناس داخل المخيمات فى جلساتهم ليلا على ضوء القمر عن الصومال والجنوب وحركة شباب المجاهدين، وكيف خلت القرى من أهلها باستثناء التجار والرجال المسلحين التابعين لحركة الشباب، يقول عبدالرحمن عثمان علموك (فى منتصف العشرينيات من عمره) : «بعد أن سيطر شباب المجاهدين على قرانا كون المشايخ وكبار التجار لجان إغاثة لكل قرية، حيث لا يزال عدد من التجار تمتلئ مخازنهم بالبضائع، لكنهم يخشون الإفلاس ونفاد مخازنهم فى مواجهة الجوع والقحط».
هؤلاء التجار حسب رواية عبدالرحمن يوزعون بضائعهم على الناس داخل الصومال؛ فقط إذا دفعت إحدى منظمات الإغاثة ثمنها، الأمر الذى خلق حلا لأزمة الأممالمتحدة فى الدخول إلى بعض المناطق التى تسيطر عليها حركة شباب المجاهدين التى تمنع دخول منظمات الإغاثة. إذ تعطى هذه المنظمات الأسر المحبوسة داخل المناطق المحرومة من وصول المعونات كوبونا مدونا به بيانات الأسرة، وتصرف الأسر معوناتها من التجار الذين يحصلون على المقابل بدورهم من مكتب الإغاثة الدائمة، وأبرز هذه التجمعات هم لاجئو مخيم حركة الشباب بحى جماجيم فى منطقة جوبا السفلى، ويبلغ عددهم نحو 12 ألف لاجئ تقريبا حسب تقديرات الأممالمتحدة، ولا تزال الأعداد فى زيادة.
وأكد تقرير الأممالمتحدة أنها تواجه تحديا فى تقديم المساعدات الإنسانية فى مناطق وسط وجنوب الصومال إذ يوجد عدد من مخيمات اللاجئين الواقعة تحت سيطرة حركة الشباب، وتقول المنظمة فى تقريرها: «بعد سيطرة عدد من الميلشيات العشائرية على الخطوط الأمامية لمقاديشو، صار دخول المساعدات الإنسانية للمنطقة صعبا وفى أحيان أخرى مستحيلا».
وتلعب لجان التجار دورا كبيرا فى إدارة جنوب الصومال الآن، خاصة مع منع حركة شباب المجاهدين لدخول العديد من حملات الإغاثة الإنسانية إلى مناطق سيطرتهم خوفا من اختراق هذه المناطق والكلام هنا على لسان عبدالرحمن الذى حدثنا عن طريقة أخرى يستخدمها التجار فى بيع بضائعهم قائلا :
« تبيع هذه اللجان المواد الغذائية للدول العربية والإسلامية التى تأتى لمساعدة المحتاجين داخل الصومال»، هذا الحرص على تحقيق المكسب لم يمنع هؤلاء التجار من تقديم بعض المساعدات كأن يتبرعوا بتحمل نفقات 5 شاحنات كبيرة انطلقت من داخل الصومال إلى مخيم داداب، والتقطت هذه الشاحنات عددا من اللاجئين العالقين بين الحدود لتوصلهم إلى مخيمات داداب داخل الحدود الكينية.
«لا تحتاج الصومال فقط إلى دخول كم أكبر من الأغذية فقط لكن إلى المياه الآمنة أيضا» هكذا حذر تقرير منظمة OCHA فغياب الصرف الصحى والمأوى النظيف والرعاية الصحية جعل الصومال تواجه مشكلة أخطر من الجفاف وهى تفشى الأوبئة ومنها الكوليرا والجديرى المائى والملاريا ونقص الغذاء الحاد والالتهاب الرئوى وبخاصة فى منطقة الجنوب.
هذا وتتخوف المنظمة من موجة أمطار خفيفة متوقعة خلال الموسم المقبل، وتقول: «من المتوقع أن تتزايد الأمراض التى تنتقل عن طريق الماء مع بداية نزول الأمطار فى ظل أماكن الإقامة المكتظة، وارتفاع مستوى الضعف ونقص الغذاء بين اللاجئين وبالتالى فمن المتوقع أن تزداد نسب الوفيات بين المجتمعات الضعيفة».
ويذكر تقرير المنظمة أن نسبة الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية تقدر بما يزيد على ال 15% من إجمالى عدد الأطفال الصوماليين، و75% منهم من الجنوب.
طول انتظار شباب المخيمات لفرج لم يأت منذ عشرين عاما، لا يعنى أن هذه المنطقة لا تعانى من مشكلات تشبه تلك التى يعانيها أى مجتمع دائم، فربما تكون أهون المشكلات التى يعانيها مجتمع اللاجئين هى الجوع، وأبرزها البطالة، فهم يعيشون على أرض كينية منذ 20 عاما، محاصرون بوضع مؤقت من المفترض أن ينتهى بانتهاء أزمة الحرب والجفاف، لكنهم وإن استطاعوا تحمل الجفاف لا يعلمون متى تنتهى الحرب.
هؤلاء غير مسموح لهم بالتنقيب عن المياه فى أراض ليست ملكهم، أو زراعتها والاستفادة من ريعها، لذا تجد بعضهم تطوع فى تنظيم وتوزيع المعونات على اللاجئين الجدد، وبعضهم أصبحوا تجارا صغارا يصنعون الأثاث ويحاولون بيعه للعرسان الجدد من أبناء المخيمات، فالمادة الوحيدة المتاحة بكثرة للإتجار فيها هنا هى الأخشاب التى جفت فى الغابات، بعضهم يبنى منها أكشاكا صغيرة لبيع الحلويات والألبان، مزدانة بإعلانات شركة كوكاكولا العالمية وشركة المحمول المحلية «سفارى تليكوم».