عدت لتوي من لقاء مولاتي، سمو الأميرة، لا أذكر كم من الوقت استغرقت في صعود درجات سلم قصرها المنيف، المحصن كقلعة! فقد كنت منهمكا في تأمل حدائقه الغناء، وأعمدته الشامخة! دلفت خاشعا بصحبة حراسها، أنحني للمهابة والرقي والجمال، وقفت منتظرا أطلالتها تتملكني الرهبة، أقبل نورها غامرا فطار قلبي في الهواء، وجف ريقي، أنقذتني بهمسها في حزم حنون.. ياهذا.. رددت مطرقا، لبيك مولاتي!.. نظرنا في أمرك، وسنسمح لك بالجلوس بباب القصر ما أستقمت..! وأقفلت في موكبها المهيب راجعة!.. هنأني الحراس، أبشر، فقد فزت مولاتي، صاحبة السمو، الأميرة أئذني لي أن أقدم بين يديك، تحية صباح، تتضوع عطرا! عطرا يخجل من عبير أنفاسك الزكية! فصباح الخير، مولاتي .. مولاتي، سمو الأميرة، تفضلي سموك، فالأفطار معد، أتحبين أن تستفتحي كعادتك، بالعسل المصفى؟! لدينا اليوم صنف من العسل، لم نر مثله قط، أحضره هذا الفقير، الذي تفضلت عليه بالأمس، وأذنت له أن يتفيئ ظلال قصرك! أوه! من أي جنان الخلد ذاك العسل؟! أحضروا الفقير.. تعال، لم لاتكلمني الا مطرق الرأس جاثيا؟! هذا مقام مثلي في حضرة مولاتي! من أين لك هذا العسل المصفى الذي لم أذق مثله قط ؟ ! مطرقا يهمس ، أجاب .. من شفتيك مولاتي!! أستطرد يزدرد ريقه، ليس هذا فحسب، بل عندي خمر ، لذة للشاربين ، من عينيك ، مولاتي !! يكمل وكأنه محموم يهذي، و نورا وعطرا وأزهارا ووردا وشهدا .. يسحبه الحراس برفق ، تهمس لهم الأميرة، أكرموا نزله وقربوه، فهذا صانع أفراحي ! مولاتي، سمو الأميرة، حمامك مهيئ، تفضلي، أغمسي جسدك النوراني، في مغطس من عطر الورد والأقحوان.. والموسيقي! طبيبك شدد على جرعات الموسيقى، مولاتي، أوصى طبيبك أن ينقع جسدك في العطر والموسيقى، وأن يقطر على شفتيك بقطرات ندى الياسمين، وأن يغسل قلبك بماء الورد، وأن تسترخي على سرير من ورد، مولاتي، أنت باقة ورد، أنت زخات عطر! مولاتي، سمو الأميرة، مايزال الرجل الفقير يهذي كمجذوب! يالهف قلبي، بم يهذي؟!.. يقول أنه يحبك حبا لم يكتبوا عنه بعد! ولو كتبوا، لخارت أقلامهم، وأحترقت أوراقهم! يقول أنه يحبك حبا يهزأ بالمسافات ويلغيها، ويتحدى الأزمنة ويمحوها، يقول أنه يحبك ولايخشى ملاما ولا أناما، لايخشى الا من نسمة تجرح خدك، من عين تحسد قدك، من وسواس يعكر صفوك! مولاتي، خادمك الفقير يقول، سأبقى بالباب، لاأريد من دنياكم شيئا، مادامت أميرتي قريرة العين، هانئة القلب، مرتاحة البال، فقد حزت الدنيا بحذافيرها! مولاتي، صاحبة السمو، أنت أكثر من حبيبتي، أنت الحلم الذي طالما آنس وحشتي، الفجر الندي الوضاء الذي أضاء الطريق أمامي، القمر الحنون الذي زهدني في النوم وعلمني السهر! النسيم الرخي العليل المحمل بعطر البرتقال والليمون، الذي أنعش روحي، أنت نفسي التي بين جنبي، بل أغلى من نفسي التي بين جنبي! مولاتي، هل تأذنين لخادمك أن يمثل بين يديك، ليقدم لك طبقا من فضة عليه قبلة الصباح.. مولاتي سيظل هناك أجمل، حتى ينتهي مخزون الكلمات وتشح الحروف في الأرض، ويتبادلها الناس في الخفاء، و يبذلون أرواحهم لتصعد في السماء، علها تعثر في حويصلات طير خضر على كلمة يقولونها في الجمال ! مولاتي، أغيثينا، سموك، مجذوبك الجالس بالباب، يضحك ويبكي، يغني ويهذي! يطلب مالا يمكن ولايجدي!.. وبماذا يأمر؟! تتساءل مولاتي في دهشة.. يطلب من سموك الأذن ليمضي، الي ذاك البحر اللازاوردي، الذي يسترخي عند قدميك، ليحيله قوارير مداد ! ليعهد الي تلك الغابة التي تسرق من ضوء قمرك، يحيلها أقلاما! يتوقف ليضحك ثانية ويهذي، حتى قوارير اللازاورد وأقلام الصنوبر، لكلمات حبك.. لاتكفي!! مولاتي، أين ذهبتي ؟! مولاتي.. سلامتك، أتعبت ؟! تهمس مولاتي، نفذوا لمجذوبي ما أمر، أسكبوا له الماء، أقطعوا الشجر! تتمتم مولاتي، متعبة، من اليوم، لمولاي ما أمر.