نشر هذا المقال بتاريخ : 22/3/2009 يجرى التنقيب عن الحقول فى مصر بمقتضى اتفاقية لاقتسام الإنتاج تبرم مع شركة أجنبية وتصدر بقانون. وبمقتضاها يقوم الشريك الأجنبى بالإنفاق وحده على جميع العمليات. فاذا لم يتحقق اكتشاف تجارى خلال فترة أولية (6-8 سنوات) يغادر دون استرداد ما أنفقه. أما اذا تحقق اكتشاف تجارى فان العقد يمتد لنحو 35 عاما ويبدأ الشريك الأجنبى فى استرداد نفقاته من نسبة معينة من الإنتاج الكلى (30-40%) يحصل عليها سنويا فى صورة عينية، ثم تقوّم بالدولار بضربها فى سعر تصدير النفط أو الغاز. ويستمر حصوله على تلك النسبة عاما بعد آخر الى ان يكتمل السداد. أما ما يتبقى بعد حصة النفقات فان الشريك الأجنبى يحصل منه على نسبة اضافية كربح صاف (عادة 15 % من الإنتاج الكلى)، ثم تحصل الدولة المضيفة (مصر) على ما يتبقى. وبذلك يبلغ اجمالى ما يحصل عليه الشريك الأجنبى أثناء فترة استرداد النفقات نحو 55 % من الإنتاج الكلى، بينما تحصل مصر خلال تلك الفترة على 45 %. وفى ضوء التجارب الفعلية التى شملت جميع الشركات الأجنبية العاملة فى مصر على امتداد فترات غطت استرداد النفقات، يختلف الرأى حول متوسط نصيب مصر من الإنتاج الكلى، اذ يرى بعض الخبراء ان هذا النصيب لا يتجاوز النصف، بينما يرى قطاع البترول انه يقارب ثلثى الإنتاج. وسواء كان النصف او الثلثين، فان الأرقام الفعلية للإنتاج والاستهلاك المحلى، كما وردت فى تقارير الجهاز المركزى للمحاسبات، تؤكد ان مصر صارت مستوردا صافيا للنفط والغاز، اذ يتجاوز استهلاكها المحلى نصيبها من الإنتاج الكلى، مما يلجئها الى تغطية العجز بالشراء من نصيب الشريك الأجنبى وبالعملة الأجنبية، كما هو حاصل فعلا منذ سنوات وترتب عليه تراكم الديون المستحقة للشركات الأجنبية والتى تحاول استخدامها فى الضغط لتحقيق مطالب غير مستحقة. ("الشروق" 5/2/2009). ويكاد يكون فى حكم المؤكد ان مصر سوف تتحول الى مستورد لكامل احتياجاتها من النفط والغاز عبر المستقبل المنظور، وان ذلك التحول يمكن ان يرفع فاتورة استيراد الطاقة الى ما لا يقل عن 90 تسعين مليار دولار سنويا قابلة للزيادة. ولا يختلف الأمر سواء كانت الواردات نفطا أو غازا او طاقة نووية، فكلها مصادر سيتحتم دفع تكلفتها بالأسعار والعملة الأجنبية متى نضبت حقولنا من النفط والغاز. ("الشروق" 5/2/2009). ووفقا لتصريح وزير البترول الأسبوع الماضى يقدر انتاج الزيت والغاز والسوائل المصاحبة للغاز (المتكثفات) بنحو 1.8 مليون برميل نفط مكافئ يوميا، وهو ما يعادل 88 مليون طن سنويا. واذ يقدر الاستهلاك المحلى بنحو 65 مليون طن، فان ما يصدر يقدر بنحو 23 مليون طن، كله تقريبا لحساب الشركات الأجنبية. وبالنسبة للزيت الخام فان انتاجه يتآكل بمعدل 4% سنويا فى المتوسط، اذ انخفض من اكثر من 900 الف ب/ى خلال التسعينيات الى نحو 580 الف ب/ى فى الوقت الحاضر ولا يعوض انخفاضه جزئيا غير اضافة المتكثفات التى تتزايد مع زيادة انتاج الغاز بحيث بلغت نحو 120 الف ب/ى فى الوقت الحاضر. أما الغاز الذى يعول عليه فى تأخير نقطة التحول الى الاعتماد الكامل على استيراد الطاقة، فقد ارتفع انتاجه خلال 2004-2008 من 24 مليون طن نفط مكافئ الى 55 مليون طن بمعدل نمو 23% سنويا فى المتوسط. ويتوقع ان يرتفع الانتاج الى 90 مليون طن بحلول 2011 وفقا لتصريحات رئيس الشركة القابضة للغازات، وبذلك تشهد الفترة 2004-2011 نموا بمعدل 21% سنويا فى المتوسط، وهو.ما يعجل بنضوب احتياطياته. وليت هذا النمو كان لتغذية صناعات محلية تتجه منتجاتها الى التصدير لتحقيق حصيلة دولارية نضعها فى صندوق لمواجهة احتياجات الأجيال المقبلة من الطاقة كما فعلت دول رشيدة كالنرويج. لكن الدافع لهذا الافراط فى انتاج الغاز كان تلبية لالتزامات التصدير الذى بدأ 2005 ثم تصاعد بمعدلات فلكية. واذ تشير اقتصاديات الطاقة النووية – كما سنوضح فى مقال مقبل - الى انها لا تصبح منافسة للغاز الا اذا تجاوز سعر الغاز 6 ستة دولارات للمليون وحدة حرارية بريطانية Btu، فاننا نوصى بان يقتصر إنتاج الغاز على ما يكفى فقط لتغطية الاستهلاك المحلى، مع شراء نصيب الشريك الأجنبى بالكامل بالسعر الوارد فى الاتفاقيات الصادرة بقوانين (2.65 دولار للمليون وحدة حرارية)، وهو ما يعادل نصف تكلفة الطاقة النووية، فضلا عن ميزات الغاز المتفوقة بيئيا. وبطبيعة الحال فان حجم الانتاج فى حالة تحديده بما يغطى الاستهلاك المحلى فقط (وهو ممكن فنيا دون إضرار بالحقول) سوف ينخفض عما لو استمر التصدير، وبالتبعية تتقلص حصة الشريك الأجنبى سواء المخصصة لربحه الصافى أم لسداد النفقات مما يعنى امتداد فترة حصوله على الحصتين. ولكن الشريك الأجنبى لا يصح ان يقلق من حيث حصوله على حصتيه بالكامل، اذ تمتد اتفاقيات اقتسام الانتاج الى نحو 35 عاما وهو ما يغطى العمر الانتاجى لأكبر الحقول. والواقع ان فترة سداد النفقات الرأسمالية كانت تمتد الى 20 عاما قبل ان تختصر لنحو 6 سنوات لصالح الشريك الأجنبى. ومن ناحية أخرى فان تمتع الشريك الأجنبى بالميزات الخاصة التى تتيحها شروط وظروف العمل فى مصر - كما سنوضح فى مقال قادم – تفرض عليه التعاون لتأمين احتياجات الدولة المضيفة التى أتاحت له استرداد استثماراته وأرباحه أضعافا مضاعفة. ويكفى ان نذكر ان قطاع البترول لم يشاركه فى الأرباح الاستثنائية التى جناها نتيجة للارتفاع الشاهق فى أسعار النفط خلال 2003-2008، كما فعلت دول أخرى كالجزائر وفنزويلا، اذ أغفل قطاع البترول تنفيذ توصية فى هذا الشأن سجلتها لجنة الصناعة والطاقة بمجلس الشعب فى تقرير لجنة الرد على بيان رئيس الحكومة (يناير 2008 ص 208). واذا كان قيام مصر بشراء أنصبة الشركات الأجنبية سيترتب عليه زيادة المديونية الأجنبية، الا انها مديونية لها ما يبررها، اذ توفر للدولة مصدرا للطاقة أقل تكلفة وأكثر أمانا خلال فترة بناء المحطات النووية. والأهم من ذلك انها تؤجل التحول للاستيراد الكامل وتؤخر دخول مصر فى الصراع الدولى المتوقع نتيجة لازدياد ندرة الطاقة العالمية (الشروق 26/2/2009) . فى ضوء تلك الظروف لا تخفى أهمية وضع وتنفيذ برامج صارمة لترشيد الطاقة فى اطار استراتيجية شاملة متكاملة بعد ان أهمل هذا الموضوع على امتداد ربع قرن لعدم اجتماع المجلس الأعلى للطاقة المنشأ عام 1979 وتهميش دور جهاز تخطيط وترشيد الطاقة الذى قمنا بانشائه فى مستهل الثمانينيات والغى 2006 ("الشروق" 15/3/2009).