(هذا المقال نشر بتاريخ 18 أكتوبر 2009 ) فى إطار إستراتيجية شاملة متكاملة للطاقة يطرح السؤال التالى نفسه: أيهما أجدى لمصر، تصدير الغاز أم الاحتفاظ به لأغراض التصنيع، وبخاصة فى توليد الكهرباء التى يتزايد عليها الطلب مسرعا، وفى الصناعات البتروكيماوية التى تبلغ القيمة المضافة فيها أكثر من 2600 دولار إذا حول ما يعادل برميل من النفط إلى سلع نهائية قابلة للاستهلاك المباشر، وأيضا لتكوين احتياط إستراتيجى من الطاقة لمواجهة احتياجات الأجيال المقبلة فى ظل توقعات تشير إلى قرب نضوب احتياطات مصر من البترول ونشوب صراع عالمى للحصول على مصادر الطاقة التى سترتفع أسعارها إلى آفاق شاهقة؟ وللإجابة عن هذا السؤال نبدأ بشرح اتفاقيات اقتسام الإنتاج التى تبرمها مصر مع الشركات الأجنبية وبمقتضاها تقوم الشركة (الشريك الأجنبى) بالإنفاق على عمليات البحث عن البترول والغاز وتنميته وإنتاجه ثم يسترد الشريك الأجنبى نفقاته على أقساط سنوية (عادة 5 سنوات) إما نقدا أو يخصص لسداد القسط عينا 40% من الإنتاج وذلك إلى أن يتم الاسترداد بالكامل. كذلك يحصل الشريك الأجنبى على نصيب إضافى بمعدل 25% مما يتبقى بعد سداد قسط النفقات (أى 15% من إجمالى الإنتاج) مقابل ما تحمله من مخاطر فى أثناء قيامه بالاستكشاف. وبذلك يبلغ إجمالى ما يحصل عليه الشريك الأجنبى فى أثناء فترة سداد النفقات 55% من إجمالى الإنتاج بينما تحصل مصر على 45% فى أثناء تلك الفترة. وقد أثبتت التجربة العملية فى المدى الطويل، بالنسبة لجميع الشركات الأجنبية العاملة فى مصر، إن ما يتبقى لمصر فى النهاية بعد نصيبى الشريك الأجنبى (الاسترداد والربح) لا يتجاوز نصف الإنتاج. ويتم تسعير حصة الشريك الأجنبى التى يحصل عليها سدادا للنفقات على أساس السعر السائد فى السوق العالمية وقت الحصول عليها، ثم تخصم الحصيلة معبرا عنها بالدولار من رصيد النفقات المستحقة فى حدود القسط المستحق، وإذا تبقى من الحصيلة شىء بعد سداد القسط يعاد تقسيمه بين مصر والشريك الأجنبى. ومن مقتضى ذلك أنه كلما كان السعر السائد فى الأسواق مرتفعا ارتفعت قيمة حصة الاسترداد وتسارع السداد وقصرت مدته، كما تنخفض حجم الكمية النهائية التى يحصل عليها الشريك الأجنبى سدادا لكامل نفقاته، ويرتفع بالمقابل حصة مصر من الإنتاج والاحتياطات. وبالعكس، كلما انخفضت الأسعار العالمية تقلصت القيمة الدولارية للحصة المخصصة لسداد النفقات وامتدت فترة السداد وازداد فى النهاية حجم الكميات المخصصة لسداد النفقات وانخفض نصيب مصر النهائى من الإنتاج والاحتياطات. وقد طالبت الشركات الأجنبية فى الآونة الأخيرة، واستجاب لها قطاع البترول، بتعديل نسب توزيع الإنتاج بحيث تنخفض الحصة المخصصة لاسترداد النفقات إلى 35% من الإنتاج، وبالمقابل ترتفع حصة ربح الشريك الأجنبى من 25% إلى 35% مما يتبقى. ويترتب على ذلك أن الشريك الأجنبى لا يلحقه ضرر من خفض حصة الاسترداد إذ صار ارتفاع الأسعار فى السنوات الأخيرة كفيل بجعل الحصة المخفضة تكفى لسداد القسط المستحق. أما رفع حصة الربح فإنه يلحق الضرر بنصيب مصر لآت حصة الاسترداد تختفى بعد سنوات قليلة بينما تستمر حصة الربح إلى نهاية مدة العقد التى تمتد لنحو 35 عاما، وتعلق باحتياطات الحقل حتى اكتمال نضوبه. فبافتراض 20% من الإنتاج الكلى كمجمل للنفقات بعد تمام سدادها، فإن ما يتبقى وهو 80% يوزع وفقا للعقود قبل تعديلها بحيث يحصل الجانب الوطنى على 60% والشريك الأجنبى على 20% كربح صاف (25% من ال80%). أما بعد التعديل فإن ربح الشريك الأجنبى يرتفع من 20% إلى 28% (35% من ال80%)، حيث يستمر انتفاعه به إلى نهاية العقد (35 سنة) بينما ينخفض نصيب مصر من 60% إلى 52%. ويسترد الشريك الأجنبى نفقاته فى جميع الأحوال دون معوقات. ويترتب على ما تقدم أن ما يعلن من احتياطات مؤكدة (سوائل أو غازات) ليست ملكا خالصا لمصر وإنما يتعلق بها نصيب الشريك الأجنبى الذى تمتد عقوده إلى 35 عاما وهى مدة تتجاوز عمر الحقل وتكفى لاستنزافه بالكامل. ومن ثم فإن أى إستراتيجية لمستقبل الطاقة فى مصر ينبغى أن تبنى على أساس أن مصر لا تملك أكثر من نصف الاحتياطات، وربما أقل من النصف بعد تعديل توزيع الإنتاج كطلب الشركات. والخلاصة، أن مصر التى تمتلك كامل الثروة البترولية الكامنة فى أراضيها، تتحمل كتكلفة لكل وحدة تحصل عليها من الإنتاج خسارة وحدة مساوية لها، وهى الوحدة التى يحصل عليها الشريك الأجنبى كحصة إجمالية من الإنتاج (استرداد وربح). وبمعنى آخر؛ يمكن اعتبار نصيب الشريك الأجنبى تكلفة تتحملها مصر مقابل حصولها على نصف الإنتاج. وتأتى هذه النتيجة على خلاف ما يردده البعض من أن الحصة التى تحصل عليها مصر من الإنتاج هى حصة مجانية دون مقابل. من ناحية أخرى، تنص الاتفاقية المبرمة مع الشريك الأجنبى على أن من حق مصر أن تشترى من نصيبه الإجمالى ما تحتاجه السوق المحلية من الغاز بسعر لا يتجاوز 2.65 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية Btu. وفى ظل هذا النص تستطيع مصر الحصول على احتياجاتها من غاز استرداد النفقات على أن تدفع للشريك الأجنبى قيمة القسط المستحق نقدا. أما إذا كان سعر تصدير الغاز يتجاوز السعر المحدد فى الاتفاقية لمشتريات مصر من حصة الشريك الأجنبى، ولم تكن مصر فى حاجة لهذا الغاز، فيمكن تصديره بالسعر المرتفع وتستخدم الحصيلة فى سداد القسط المستحق ثم يقتسم ما يزيد على القسط بين الطرفين بنسبة اقتسام ما يتبقى بعد سداد النفقات. بذلك تصبح العملية فى حالة استخدام مصر للغاز المخصص لسداد النفقات فى مواجهة احتياجاتها المحلية مجرد عملية حسابية ليس فيها ضرر أو خسارة لأحد الطرفين. أما إذا تجاوزت احتياجات مصر المحلية حصة استرداد النفقات فإنها تتجه لاستكمال احتياجاتها بالشراء من نصيب الشريك الأجنبى الذى يحصل عليه كربح. وهنا تكمن المشكلة، إذ تطالب الشركات، ويستجيب لها قطاع البترول، برفع سعر الغاز المبيع لمصر فوق ما حددته الاتفاقية الصادرة بقانون وهو كحد أقصى 2.65 دولار لكل مليون Btu (الشروق 5/4/2009). وقد عدلت بالفعل بعض الاتفاقيات خلال 2008 وارتفع السعر من 2.65 دولار إلى مستويات تتراوح بين 3.70 دولار و4.70 دولار. ويبدو وجه الغرابة أن هذا السعر الذى تشترى به مصر الغاز المستخرج من أراضيها لسد العجز فى احتياجاتها يتجاوز سعر التصدير، سواء لإسرائيل الذى كان يراوح حول دولار واحد، أم لغيرها من الدول والذى يحتفظ قطاع البترول بسرية السعر دون مبرر. كذلك تحاول الشركات الأجنبية الالتفاف حول التزامها بتزويد السوق المحلية بالغاز عبر قطاع البترول، إذ تطالب بتزويد الصناعات المصرية مباشرة وبأسعار تتجاوز السعر المحدد بالاتفاقيات، وبذلك تحتفظ كل شركة بمركز احتكارى تجاه عملائها المصريين إذ لا يوجد لها بديل فى مد خطوط الأنابيب التى تغذيهم بالغاز. وتبرر الشركات طلبها رفع سعر الغاز الذى تتزود به السوق المصرية من أنصبتها بأن تكلفة التنقيب والإنتاج فى المياه العميقة بالبحر المتوسط ارتفعت كثيرا فى ظل ارتفاع أسعار البترول واحتدام المنافسة بين الشركات لاقتناء معدات البحث والإنتاج فى المياه العميقة. وهنا كان ينبغى الرد عليها بأن الشركات تتقاضى ما تنفقه سواء ارتفع أو انخفض حجمه من الإنتاج الكلى دولارا بدولار ولا علاقة لارتفاع النفقة بما تتزود به مصر من أنصبتها. وإذا كانت تكلفة إنتاج الغاز لا تتجاوز 70 سنتا للمليون Btu كما يعلن قطاع البترول، فبأى حق تتقاضى الشركة أربعة دولارات كربح فوق تلك التكلفة؟ ويبقى أخيرا أن نؤكد تحذيرنا من الإسراف فى الإنتاج والتصدير، والذى أطلقناه مرارا فى أكثر من 60 بحثا ومقالا عبر 20 عاما، تحسبا للنضوب المبكر للاحتياطات المحدودة التى تمتلك مصر نصفها فقط، وبذلك تشتبك مبكرا فى الصراع العالمى حول الطاقة الذى يؤكد خبراؤها أنه صار وشيكا.