عندما يدق الشتاء الأبواب، ويحزم المصيفون أمتعتهم استعدادا للرحيل، يضطر محمد إلى رد أدوات العمل وصندوق الفريسكا الزجاجى الذى يحمله على كتفه طوال أشهر هذا الموسم إلى صاحبها، والذى يطلق عليه اسم المعلم، ويجمع ما تبقى معه من نقود ليعود إلى بلدته «ساقلته» فى محافظة سوهاج، حيث تعيش زوجته وأبناؤه الخمسة هناك. «تمسكت بالعمل فى بيع الفريسكا عشان زبونها نظيف»، حسب تعبير محمد، الذى بدأ يتردد على الإسكندرية فى فصل الصيف منذ 30 عاما، وقد عمل فى البداية فى تجارة سلع عديدة مثل أدوات التجميل، وملابس المحجبات خاصة أغطية الرأس، لكن منذ أن عرض عليه أحد «المعلمين» الذى يعرفه لأنه من بلدته فى الأصل بأن يعمل معه فى بيع الفريسكا، وهو مستمر فيها، لأنه لا يتعرض فيها لأى من سخافات «الفصال» لأن سعرها واحد. وسعر قطعة الفريسكا موحد، ولكنه يرتفع تدريجيا منذ بداية عمله فيها، فقد كانت ب10 قروش قبل نحو 15 عاما وظلت تكسب 5 قروش إضافية حتى وصل سعرها إلى 50 قرشا فى صيف 2007، لكنها قفزت بمقدار 25 قرشا دفعة واحدة فى 2008 بسبب ارتفاع أسعار السكر، وقال محمد إن سعرها فى منطقة العجمى يعتبر رخيصا مقارنة بالساحل الشمالى مثلا، حيث يزيد على الجنيه للقطعة-حجمها نحو سنتيمتر ونصف فى سنتيمتر ونصف. وكما أدت الأزمة الاقتصادية العالمية إلى قفزة فى سعر قطعة الفريسكا فى عام 2008، فإن الفنانة آثار الحكيم كان لها تأثير كبير وإيجابى على تجارة الفريسكا، فقد صنعت بمسلسلها الشهير «فريسكا» الذى تم عرضه قبل نحو 4 سنوات، دعاية مجانية لهذه الحلوى «الإسكندرانية»، وأضافت زبائن جددا من العرب فى دول الخليج وشمال أفريقيا، وقال محمد إنه بعد المسلسل ظهر اهتمام واضح لدى زبائن من دول عربية مثل الكويت والسعودية وليبيا بمعرفة الفريسكا وقد أحبوها وأصبحت من أهم الأشياء التى يحرصون على شرائها فى الصيف وقد أسهمت فى رفع «اليومية». وقال محمد إنه يعمل مع أشخاص آخرين لحساب المعلم الذى يصنع الفريسكا، وهو يعطيهم عددا محددا من القطع، إضافة إلى الصندوق الزجاجى ذى القوائم الخشبية، و«ماسك» الفريسكا الذى يلتقط به القطع، وعلى قدر حجم المبيعات يحصل على «يوميته»، وتصل إلى 20 جنيها على كل 100 جنيه، وتتراوح هذه اليومية بين 20، و40 جنيها فى اليوم طوال أيام الصيف وتقل كلما اقترب الموسم من الانتهاء. ورغم أن محمد يعمل منذ 15 عاما فى مجال بيع الفريسكا، ويحملها على كتفيه أكثر ما يضعها على الأرض ليبيع منها، ويتحرك بها ذهابا وإيابا بطول المساحة المحددة لكل معلم على الشاطئ، فإنه لا يعرف حتى الآن كيف يتم تصنيعها، وقال إن المعلمين يحرصون على ألا يعرف أحد سر صناعتها حتى لا يدخل حلبة المنافسة أشخاص جدد. ذهب محمد إلى الإسكندرية، تاركا والديه فى سوهاج ليعيش مع أقربائه ويبحث عن عمل، وعمره 12 عاما، بسبب الضرب فى المدارس، وقال «من كتر الضرب فى المدرسة قررت أسيبها، وبسبب الضرب كنت أنسى كل ما أعرفه عندما يسألنى الأستاذ، وتكون النتيجة المزيد من الضرب»، وأضاف «ياريتنى استحملت حتى لا أواجه ما أواجهه الآن». وقد يكون هذا الندم هو دافع محمد الرئيسى لإلحاق أبنائه الخمسة بالتعليم، وابنته الكبرى حاليا فى ثانوية عامة، والباقون فى المراحل الإعدادية والابتدائية، لكن لم يكن الضرب مشكلة محمد الوحيدة مع النظام التعليمى، لكن لديه مشكلة أخرى يعيشها مع ابنته الوسطى ياسمين، التى تفوقت فى ختام المرحلة الابتدائية العام الماضى، وأعلنت محافظة سوهاج عن حصولها على جائزة هى عبارة عن جهاز كمبيوتر، وقد أنهت ياسمين الصف الأول الإعدادى ولم تحصل على جائزتها حتى الآن، «ورحت مرات كتيرة المحافظة أسأل على الكمبيوتر، وما فيش فايدة» حسب تعبير محمد. ويحب محمد العمل فى تجارة الفريسكا، لكنها غير مستمرة، كما أنها أصبحت مجهدة مع تقدم العمر، وخاصة أن صحته لا تساعده. ويضطر محمد إلى العمل فى مجالات مختلفة فى باقى العام منها «تأجير نصف فدان أرض وزراعته» مثل والده، أو كعامل محارة وهى المهنة الذى تعرض فيها لحادث حيث سقط من الدور الثالث وأنقذته العناية الإلهية، لكنها تركت شرخا فى العمود الفقرى، «وظللت فى الجبس 45 يوما»، وما زال ظهره يؤلمه ونصحه الأطباء بتخفيف المجهود الذى يبذله ولا يحمل صندوق الفريسكا فترة طويلة، «لكن هانام والعيال تاكل طوب» حسب تعبيره. وقال محمد إن بعض الأصدقاء نصحوه بتقديم طلب إلى الشئون الاجتماعية لتخصيص معاش له، لكنه لا يعرف أين يذهب وإلى من يلجأ ؟!