يتذكر كل تفاصيل إسكندرية الستينيات كما عاشها فى طفولته : هواء البحر القريب، ودخان القطارات فى محطة سيدى جابر القريبة من شقته، وأغنيات الموسيقار الإسكندرانى جورج موستاكى، وصوت داليدا. غادر الإيطالى فلافيو سينتوفانتى الاسكندرية ليعيش فى لندن سنوات طويلة، لكنه رجع إليها بحكم العمل فى إحدى دور النشر التعليمية، وأصبح شبه مقيم بالقاهرة، إلى أن جاءت ثورة يناير، ساعتها عاد فلافيو مصريا تماما، وهو يتابع ميدان التحرير بقلبه من بعيد، حتى نجح فى دخول مصر بعد سقوط النظام السابق. هنا صفحات من سيرة فلافيو المصرى، حكاها ل«الشروق» بالعامية المصرية «الفصيحة»، بلا لكنة أو تردد. هنا أيضا مقاطع من يوميات صديقه المصرى محمد يحيى، الذى كان يوافيه بنشرة أخبار الميدان، فى رسائل إلكترونية شبه يومية. 1 سيدى جابر: جنود مصر على رصيف المحطة فى الطريق إلى سيناء 1967 فلافيو سينتوفانتى، المولود فى الإسكندرية عام 1954، يفخر بأن عائلته تعكس «الإسكندرية التى كانت وطن الجميع». الأب إيطالى يونانى، والأم مالطية تحمل الجنسية الإنجليزية عن طريق والدها، الذى غادر مصر فى تداعيات حرب 1956. وأصدقاء الطفولة كانوا من كل لون وجنس ودين. عشت فى مصر ثلث حياتى تقريبا. كانت شقتنا فى الدور الثالث بإحدى عمارات طريق الحرية، وتطل مباشرة على ميدان سيدى جابر. وكان دخان القطارات يختلط مع الهواء داخل غرف الشقة. أتذكر مشاهد الجنود على رصيف المحطة فى طريقهم إلى خط النار فى 1967. أتذكر أيضا استدعائى من الحمام على وجه السرعة، لأقف فى البلكونة بالشورت، أشاهد موكب جمال عبدالناصر يعبر طريق الحرية. كان لأسرتى شاليه فى العجمى، لا يتميز سوى برمال العجمى البيضاء على الشاطئ. كنت أمضى الصيف فى العجمى أو فى «الراس السودا» حيث جدى وجدتى، وكنت أحبهما جدا. وكنت أذهب مع جدتى إلى الكنيسة الموجودة بميدان سيدى بشر المحطة، وهى التى تعرضت لحادث تفجير نهاية العام الماضى. كان جدى وأبى يعملان فى بناء وديكور المبانى، ومن المبانى التى صمماها محل ديليس، أثينيوس، وقسم شرطة الشاطبى. أبى كان متخصصا فى الطراز المعمارى الحديث art deco، الذى ازدهر فى باريس بعد العشرينيات. دخلت مدرسة سان مارك الابتدائية، واخترت الفرنسية لغة أولى، لأننى ضعيف فى العربى. كنت أختبئ تحت الدكة قبل أن يصلنى الدور فى أسئلة العربى. لم أكن أتحدث العربية، ولم يكن يشجعنى أحد على التمرس فيها، لكننى اخترتها تخصصا فى الدراسة الجامعية فى لندن بعد ذلك. حصل عندى رد فعل عكسى على ما كنت أسمعه فى طفولتى، من أن العربية ليست لغة كبيرة، وأن الفرنسية أو الإنجليزية «أشيك». وكانت أمى تمنحنى المال يوميا لأشترى ساندوتش فول لسائق أتوبيس المدرسة، وكنت أحب رائحة الساندوتش لدرجة أننى أقاوم التهامه بنفسى قبل وصول الأتوبيس. إنها سنوات الطفولة فى سيدى جابر!. كنت عضوا فى فريق الكشافة Cœurs vaillants أو القلوب الشجاعة بالفرنسية، كنا نقيم المخيمات، ونسافر إلى مرسى مطروح، وننظم البطولات الرياضية، والمناسبات الاجتماعية والدينية. ظللت فى الإسكندرية عام 1967، عندما اندلعت الحرب، وسرى بين الأجانب المقيمين بالمدينة الخوف من تكرار ما حدث فى حرب 1956، وقرر الكثيرون الرحيل إلى أوروبا. أمى كانت خائفة مما قد يحدث، فقررت أن نلحق بوالدتها فى لندن، وكانت بين من خرجوا فى العدوان الثلاثى. كان أبى ضد فكرة الرحيل، لكنه اضطر إليه، رغم أعماله التى لم تتم، وأمواله التى لم يكن لديه الوقت لتحصيلها. يوم الرحيل كان لحظة حزينة. غادرنا ميناء الإسكندرية فى سفينة إيطالية مع كثير من أبناء الجاليات التى تركت الميناء. هبطنا إلى نابولى الإيطالية، وعشنا فترة فى مخيم للاجئين، قبل الانتقال إلى لندن، والإقامة هناك نهائيا. كثيرا ما أتذكر أصحاب الطفولة، الذين كانوا من كل الجنسيات والطوائف، وكنا نتحدث الفرنسية فى الغالب. انقطعت علاقتى بالجميع بعد السفر، إلا رفيق طفولتى رءوف النجار، المقيم فى كندا حاليا. 2 لندن : لقاء فى بيت عبدالحليم حافظ وتضامن مع غزة تحت الحصار سنوات فلافيو فى لندن تقاطعت دائما مع الوطن. مصر التى فى خاطره تناثرت فى تفاصيل حياته، أعمال فنية فرعونية، وموسيقى شرقية، وأطباق الفول الساخنة على مائدة الإفطار. فلافيو كان أيضا فلسطينى الهوى، فقد ساعد فى حملات دعم غزة تحت الحصار، وتطوع للعمل فى مخيمات اللاجئين فى لبنان. لم تكن مصر تغيب عن بالى فى لندن. أحب فيروز، وأسمع أم كلثوم وعبدالحليم أيضا. كانت طفولتى فى الإسكندرية قد علمتنى ميزة الحياة مجتمع متعدد الثقافات واللغات والأديان، ومازلت أعتبر التعددية والتسامح أكبر قيمتين فى مصر. الآن أعيش فى لندن، ولا أشعر بالارتياح الكامل، لأننى أفتقد إسكندرية الطفولة، الملونة بالثقافات واللغات والأجناس. نصفى غربى، ونصفى مصرى، ولدت هنا، لذلك لا أشعر بالانتماء الكامل نحو إيطاليا وطن أجدادى، ولا بريطانيا وطنى الحالى. فى الكرة أشجع إيطاليا ما اعرفش ليه، لكن لو مصر تلعب أشجعها. أما لو لعبت ضد إيطاليا فسوف أشجع الأضعف، يعنى شجعت إيطاليا فى مباراتها مع مصر فى كأس القارات، لأن مصر كانت أقوى وكسبت. من يدخل بيتى فى لندن يعرف أننى مصرى. تمثال لرأس إخناتون فى مدخل البيت، على الجدران، صور مراكب النيل، ورسوم دافيد روبرتس لمعابد مصر الفرعونية، لوحة انطباعية لفنار الإسكندرية، وبعض الأشكال الخزفية وقطع الكليم من الحرانية. ولداى يحبان تناول الفول، الذى نشتريه معلبا فى لندن، كما أن والدتى مازالت تتقن طهو الكبيبة والبامية والمحشى. فى لندن واصل أبى عمله مهندسا معماريا، وكان من بين زبائنه عائلة الشواربى باشا وعبدالحليم حافظ وفاتن حمامة. اخترت دراسة العربية فى الجامعة، وعدت إلى القاهرة فى بداية السبعينيات، بعد حرب أكتوبر مباشرة. كان ذلك فى إطار بعثة مدتها ستة أشهر لتقوية لغتى العربية، والتحقت بكلية الآداب بجامعة القاهرة، لم تكن مفيدة بالصورة التى تمنيتها. لم تكن الدراسة منظمة، ونحن كنا كسالى. فى هذه الفترة قابلت عبدالحليم، مرة. كان معجبا بإحدى زميلاتى فى الجامعة بلندن، وجاءت معى للقاهرة فى هذه البعثة. التقى عبدالحليم معها، ودعاها إلى منزله المطل على حديقة الأسماك بالزمالك، عام 1974. وخافت زميلتى، وهى من النمسا، أن تذهب بمفردها، فذهبت معها. لم يكن سعيدا أننى ذهبت معها، لكنه كان لطيفا معى، وسمح لى بالاتصال بوالدى فى لندن، فى زمن كان فيه الاتصال الدولى معجزة. كان يعرف والدى لأنه نفذ أعمال ديكور فى منزله بلندن. رجعت إلى بريطانيا بعد زيارة مصر الأولى، حصلت على الليسانس، ثم دبلوم فى الترجمة من العربية إلى الإنجليزية، ثم دخلت إلى عالم النشر. الآن مسئول منطقة الشرق الأوسط فى دار نشر تمتد أعمالها فى أكثر من 40 دولة. واخترت أن تكون مصر هى مركز الأعمال الإقليمى للشركة. ساهمت مع زوجتى فى حملة التضامن مع فلسطين، فى الثمانينيات. وتطوعنا بالعمل فى أحد مخيمات اللاجئين، بالتعاون مع الهلال الأحمر الفلسطينيى. ساعدنا فى بناء ملعب لإحدى المدارس، وإنشاء طريق فى مخيم الرشيدية بلبنان، الذى يبعد 7 كيلومترات عن مدينة صور، وقصفه الإسرائيليون بعد ذلك. فى صيف 2009 شاركت فى سباق الدراجات الخيرى من لندن إلى باريس مع 20 آخرين، لجمع مساعدات طبية من أجل غزة المحاصرة. ونجحنا فى تحويل 100 ألف جنيه استرلينى، وشارك معنا البروفيسور آفى شلايم، وهو عراقى المولد ومن أكبر المنتقدين لسياسات إسرائيل. ميدان التحرير: رسالة من أصدقائى: نحييك من أمام بوابة القصر الجمهورى 3 كان فلافيو يعمل بين القاهرةولندن، لكن الثورة اشتعلت وهو بعيد. لم ينجح فى السفر إلى القاهرة، فظل هناك يتابع الأخبار لحظة بلحظة، حتى تمكن أخيرا من العثور على تذكرة، وكان أول ما فعله فى القاهرة هو التوجه إلى ميدان التحرير، لكن المفاجأة أن ذلك حدث فى اليوم التالى لرحيل الرئيس المخلوع. كنت فى لندن عندما اندلعت الأحداث. كنت أتابع الأخبار على الراديو والتليفزيون، لست من جيل الإنترنت. فى البداية لم أتصور أن يتطور الأمر إلى حد الثورة، لكن كنت أمتلك إحساسا عضويا أن ما يجرى ليس أمرا عاديا. بدا معى هذا الإحساس وأنا فى مطبخى أستمع للراديو، ونقل صورة صوتية لهدير الحشود فى ميدان التحرير، وكدت أبكى. قلت إن ما يجرى مسألة فريدة. كنت قد رتبت للحضور فى نهاية يناير، لكن شركة الطيران ألغت السفر. بعد موقعة الجمل أحسست بالقلق على أصدقائى. أرسلت إلى صديقى أحمد بدير، مدير عام دار الشروق بالبريد الالكترونى أسأله عن الأحوال، وكنت أكرر فى رسائلى لأصحابى فى القاهرة عبارة أن مصر التى نهضت لن تركع مرة أخرى، وكانت كل الرسائل تنتهى بعبارة «تحيا مصر»، مكتوبة بالحروف اللاتينية. كان الأصدقاء يتصلون بى من أمام القصر الجمهورى، يقولون: فاتك الكثير لأنك لست معنا الآن، كما كتب لى الناشر الكبير نديم إلياس. كنت أسمع هدير الحشود فى خلفية المكالمة. وفور تنحى الرئيس وصلتنى رسالة تقول: الآن نحن أحرار، لقد فاتك الكثير لو كنت معنا. لكن أكثر يوم خفت فيه على الثورة، كان الأربعاء السابق على التنحى. قلت إن ما يجرى تجاوز المظاهرات إلى شىء مخيف، وقد يتطور إلى أحداث دموية، ويفتح الباب لحرب أهلية، شىء يشبه ما حدث فى ليبيا بعد ذلك، رغم أننى متأكد من أن للمصريين طبيعة خاصة، وأنهم شعب متسامح يؤمن بالتعددية، هذه هى الروح التى رأيناها فى التحرير، وأنا واثق أنها الروح التى ستنقذ مصر، ونحن قادرون على الحفاظ عليها. لاحظت أننى أستخدم كلمة «نحن»؟. أنا ضد القمع، وأعتقد أن العالم العربى فى حاجة إلى أنظمة جديدة. حالة الطوارئ مفروضة فى مصر من 30 سنة، مش طبيعى. رئيس يبقى فى مقعده 30 سنة، مش طبيعى. التطور الاقتصادى لم يكن كافيا فى ظل كل هذا الفساد، ومن الناحية السياسية كانت مصر متخلفة. ما كان يلمسنى شخصيا خلال عملى فى مصر كان الفساد، كان ممكن ننجح أكثر من ذلك لولا الفساد، لم يكن هناك مناقصات، بل شركات مفضلة. أتوق لرؤية وحدة ديمقراطية قوية بين مصر وليبيا وتونس، مصر وتونس بالمهارات والخبرات البشرية، وليبيا بمواردها الطبيعية. سيكون هذا الاتحاد مستقلا عن الضغوط الأمريكية، وقادرا على التصدى لإسرائيل. لقد شعرت بالاكتئاب وأنا أرى العالم العربى يترك قيادته مرة أخرى للغرب، ليس هذا وقت الغرب ولا هذه ثورته. تمنيت لو أن الجامعة العربية سمحت للمصريين والتونسيين بالتدخل لإنقاذ إخوانهم فى ليبيا. لقد تبين العرب مصالحهم الخاصة بعيدا عن تدخلات الغرب المنافق. أتمنى أن تعترف الثورة بدور المرأة، وأن تقدم نموذجا على احترامها، يمكن للمنطقة أن تحذو حذوه. الثورة جعلتنى أكتشف فى نفسى أمرا جديدا. الناس كانت تقول لى دائما إننى شخص غير متفائل. حتى الاحتفال برأس السنة أو فوز فريق الكرة المفضل، لا أبتهج كثيرا. فى رأس السنة أسأل: بم نحتفل بالضبط؟ بضياع عام آخر؟. بعد يناير اكتشفت أن الفرح ممكن، وأننى متفائل بطريقتى. لما الناس تسألنى تفتكر إيه اللى حيحصل فى مصر أو فى العالم العربى، أجمع نصف إجابتى من معلوماتى، والنصف الآخر محض أمل.