فى هذه الأيام، وقد اكتمل توا العام الواحد والستون على النكبة الفلسطينية، كثر ترديد عبارة «حل الدولتين» باعتبارها «المانترا» أو التعويذة السحرية الجديدة لتأخذ مكان التعويذات التى بليت من الاستعمال المبتذل عبر عقود النكبة المستمرة، مثل «242» و«الأرض مقابل السلام».. ما هو تجديد للجهل أو التجاهل لبساطة المشكلة: اغتصاب واحتلال حلهما الوحيد التحرير الكامل وإعمال القانون الدولى بدل شريعة الغاب الدولية. علما بأن تعويذة «حل الدولتين» ليس فيها سحر جديد! فهى الحل الذى اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 فى قرار التقسيم. ومنذ ذلك التاريخ حمل هذا الحل فى رحمه كل الظلم الذى يمكن تصوره حين خصص القرار 56% من أرض فلسطين لدولة يسودها اليهود وكانوا آنذاك حوالى ثلث سكان فلسطين عددا. وحين حاول الوسيط الدولى الكونت برنادوت بعض التعديل لذلك الظلم كان مصيره الاغتيال على يد عصابة شتيرن الإرهابية بقيادة اسحق شامير. وجدير بالذكر أن الحدود التى حددها قرار التقسيم للدولة التى يسودها اليهود اشتملت على مواطنين عرب بلغ تعدادهم حوالى نصف المليون أو 40% من مجموع سكانها. لم يهدف قرار التقسيم أن ينشئ دولة «يهودية» بالمعنى العنصرى الحصرى، بل دولة يعتبرها اليهود وطنهم القومى دون إقصاء سكانها الأصليين العرب. حتى إن الرئيس ترومان، الراعى لقيام إسرائيل، حين أوشك على توقيع وثيقة اعتراف الولاياتالمتحدة بدولة إسرائيل، لاحظ فى الوثيقة عبارة «الدولة اليهودية» صفة للدولة الناشئة، فشطب العبارة بقلمه وكتب محلها «دولة إسرائيل» بدون ذلك الوصف العنصرى. مع ذلك فإن أول ما فعلته الدولة الجديدة حال إنشائها هو التوسع إلى حدود الهدنة فى 1948 ما قفز بمساحتها إلى 78% من فلسطين تاركا للأغلبية العربية من السكان 22% وهى الفضلة الباقية التى هى موضوع المفاوضة المقترحة حاليا ل«حل الدولتين»! وصاحب ذلك الاغتصاب طرد ثلاثة أرباع مليون فلسطينى من أرض آبائهم وأجدادهم فى أولى عمليات «التطهير العرقى» فى القرن العشرين والتى صدمت الرأى العام الدولى فجابهتها الأممالمتحدة بالقرار 194 لعام 1948 الذى نص على «أن اللاجئين الراغبين فى العودة إلى بيوتهم والعيش بسلام مع جيرانهم يتعين إعادتهم بأسرع وقت تتيحه الاعتبارات العملية، كما يتعين على السلطة المسئولة عن طردهم أن تعوضهم عن أى خسائر أو أضرار لحقت بهم أو بممتلكاتهم. وذلك عملا بمقتضيات القانون الدولى أو موجبات العدالة». كذلك فإنه من بالغ الأهمية التذكير بأن قرار قبول إسرائيل دولة عضوا فى الأممالمتحدة فى 9 مايو 1949 اقترن نصا بالتزام هذه الدولة بالتنفيذ الأمين لقرار التقسيم (181) الذى رسم حدودها وقرار العودة (194) الذى ضمن حقوق المواطنة الكاملة للأقلية العربية واللاجئين العائدين. انضمت إسرائيل إلى الأممالمتحدة ثم لم تكترث للوفاء بشروط قبولها فى الأسرة الدولية، فتنكرت لقرار التقسيم بالتوسع فى حدوده و«تطهيرها» من العرب، كما تنكرت لقرار إعادة «اللاجئين» (وهم على الأصح «المهجّرون»!) إلى حين شنت عدوانها عام 1967 الذى أوقع كامل الأرض الفلسطينية تحت الاحتلال حتى تتسلى إسرائيل بالقضم والمضغ ثم الابتلاع على سجيتها. لكن على غرار قضم ومضغ الفاكهة، هنالك نويات صلبة يصعب ابتلاعها فضلا عن هضمها لو ابتلعت! النويات هنا هى مراكز التجمع السكانى للفلسطينيين فى المدن والبلدات الرئيسية وحولها: رام الله، بيت لحم، نابلس، طولكرم، جنين، قلقيلية، وأخيرا لا آخر مدينة الخليل ناقصة المستعمرة اليهودية عند الحرم الإبراهيمى. أما القدسالشرقية فخضعت لخطة وئيدة ولكن ناجحة لتطهيرها من السكان العرب، وقد تسارع تنفيذ الخطة بصورة لافتة فى المدة الأخيرة. أثناء كل ذلك، وحتى مجىء حكومة نتنياهو ليبرمان، لم تتنكر إسرائيل ل«حلّ الدولتين» صراحة. بل بقى هذا الحل محور مسيرة المفاوضات منذ أوسلو. فقد كانت إسرائيل وافقت دون لبس على هذا الحل ابتداء بموافقتها على قيام «السلطة الفلسطينية» وتزويدها بكمية كبيرة من رموز الدولة من رئاسة دولة وحكومة من أصحاب المعالى الوزراء ومجلس تشريعى وقوات أمن مسلحة بالكلاشنكوف إلخ. لكن السلطة الفلسطينية بقيت دون سيادة سوى سيطرة محدودة على جزء صغير من الأرض المحتلة هى المدن والبلدات المذكورة أعلاه وقليلا مما حولها. ولقد أعطت الاتفاقيات المنبثقة عن أوسلو تصنيف «أ» لأراض بسلطة فلسطينية موسعة، وتصنيف «ب» للأراضى بسلطة فلسطينية منقوصة، ثم تصنيف «ج» للأراضى التى بقيت احتكارا لسلطة الاحتلال وأصبحت فى حكم الملحقة نهائيا بإسرائيل بعد أن تمت مصادرة معظمها لإقامة مزيد من المستوطنات وللأغراض العسكرية ثم لإقامة الجدار العازل. وإذن فلم يكن ثمة رفض إسرائيلى صريح لحل الدولتين وقيام دولة فلسطينية، بل كان الخلاف والمفاوضات على توصيف حدود الأرض التى تقوم عليها «الدولة الفلسطينية» وعلى تفاصيل السلطات الفعلية التى تعطى لها. وأول من تلفظ بعبارة «حل الدولتين» هو الرئيس بوش. وكأنه يتنبأ بمجىء نتنياهو ليبرمان وتنكرهما لقيام دولة فلسطينية من أى نوع كان. ولكن كيف يمكن لإسرائيل الاستمرار فى الأمر الواقع ونبذ التفاوض على «دولة» حتى من النوع الوهمى منزوع السيادة؟ فى ظنى أن السيناريو راهن على عاملين: (أ) التمزق الشعبى الفلسطينى بين فتح وحماس، والتمزق الجغرافى بين الضفة وغزة، و(ب) رشوة المسالمين أو الاستسلاميين من الفلسطينيين بإغراقهم فى بحبوحة اقتصادية ينسون معها وطنيتهم أو يؤجلون استحقاقاتها إلى أجل غير مسمى!. كيف تتصدى الدول العربية لهذا الرهان؟ المنطق يقضى بأن تعمد إلى استغلال الفرص التى تتيحها الأزمة الاقتصادية العالمية فتستخدم أوراق المال والنفط والاقتصاد من أجل تعزيز توجهات الإدارة الأمريكيةالجديدة للحد من تمرد إسرائيل على القانون الدولى. لكن الحكومات العربية تخضع إلى كل الإملاءات ما عدا إملاء المنطق! فتثابر على «المبادرة العربية» والتوهم أنها ورقة الضغط الفعلية والاستثمار المجدى للتوجهات الإيجابية لإدارة أوباما! بل إنها تقدم المبادرة بصيغة محسنة: إنها ليست فقط مبادرة عربية، بل إنها لمبادرة إسلامية تبشر إسرائيل بأن أعلام سفاراتها سترتفع على أكثر من خمسين سفارة عربية وإسلامية فى كل العالم! السؤال هو هل أن السبب فى احتقار إسرائيل للمبادرة العربية هو أن العشرتين من الدول العربية غير كافية «لتعبئة العين» الإسرائيلية حتى نضيف إليها العشرات العديدة من الدول الإسلامية؟ لا ينفك المخلصون من علماء السياسة يسوقون البرهان تلو البرهان على أن تلك المبادرة ستبقى عقيمة ما لم يقترن رفض إسرائيل لها بنوع ما من العقوبة مثل: هذه هى مبادرتنا تعبر عن حسن نيتنا، فإذا تجاهلتموها فإنكم ستدفعون ثمنا ما. نعم، قد يكون قرارنا استبعاد الحرب كخيار أول.. لكن هذا ليس نهاية المطاف. فالتاريخ يعطينا ويعطيكم دروسا مثل درس الموقف بين الغرب والاتحاد السوفييتى بعد الحرب العالمية الثانية. فمن المعروف أن الغرب بقيادة أمريكا كان يتربص للقضاء على النازية فى ألمانيا لكى يتفرغ إلى القضاء على الشيوعية فى الشرق. وكان على وشك شن حرب لهذا الغرض لولا مفاجأة إشهار السوفييت امتلاكهم القنبلة النووية. النتيجة؟ توقف الغرب عن شن الحرب، لكنه لم يبرر ذلك بزعم أن «السلام هو خياره الاستراتيجى»! بل على العكس: قام تشرشل بالإعلان أن «ستارا حديديا قد أسدل على الاتحاد السوفييتى»! هذا الستار الحديدى هو سياسة «الاحتواء» المقاطعة والحرب الاقتصادية والعزل السياسى، ما تسبب فى انهيار بل انفجار الاتحاد السوفييتى من الداخل. واللافت أن العرب اهتدوا إلى هذا المنطق العلمى فى سياسة الاحتواء واتبعوا لمدة قصيرة اللاءات الثلاث التى نادت بها القمة العربية فى الخرطوم بعد عدوان 1967: لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات مع إسرائيل حتى تنهى احتلالها للأرض العربية. ولقد وقف مع الفلسطينيين والعرب فى سياسة الاحتواء تلك وشارك فى عزل إسرائيل ومقاطعتها كبرى الدول فى آسيا وأفريقيا وسائر العالم. بل إن هذه الدول صمدت للإرهاب الصهيونى ونجحت فى حمل أغلبية الأممالمتحدة على مساواة الصهيونية بالعنصرية. طبعا، هنالك استحقاقات وشروط لإدارة سياسة الاحتواء بنجاح. وهذا ما فعلته أمريكا والغرب تجاه المعسكر الشيوعى. وربما تتاح فرصة مقبلة للكتابة وبيان بعض تلك الاستحقاقات والشروط لإدارة سياسة الاحتواء والمقاطعة والعزل تجاه العدو الإسرائيلى. لكن يكفى هنا التأكيد أن ليس من تلك الشروط أن نعرض على العدو مدّه بشرايين الحياة من خلال إهدائه التطبيع الكامل مع كل العرب والمسلمين.. مقابل ماذا؟ مقابل «التفاوض» على «انسحاب» من نوع ما والقبول ب«حل دولتين» من نوع ما، وتأجيل موضوع القدس وعودة المهجرين لمفاوضات مقبلة، ولا ذكر ولا اكتراث بالطبيعة العنصرية لدولة إسرائيل ومشروعها الصهيونى الذى أدناه «قانون العودة» الإسرائيلى الذى يدعو ويحض ويعرض التمويل على أكثر من 16 مليون «يهودى» من سائر العالم للهجرة إلى إسرائيل، وأقصاه تأجيج الصراعات الدينية والطائفية والفئوية فى فلسطين وفى كل قطر عربى وفيما بين كل قطر عربى وآخر، وفيما بين العرب والإيرانيين، إلخ.. من سائر ما يمزق الوطن العربى كل ممزق ويحيله قابلا للقسمة على كل الأعداد.