«اللحظات التى عشتها فى ميدان التحرير لم استطع حتى وقتنا هذا أن انفصل عنها بدنيا وذهنيا، بل اعتقد أن ذكرياتى كلها محيت وحل محلها كل الذكريات التى عشتها فى الميدان وكأنها لحظة ميلاد جديدة بالنسبة لى، حتى إننى لم اتذكر أنى سينمائى ولى مهنة علىّ أن أمارسها، واعترف أن ثورة يناير هزمتنى أمام نفسى وأظهرت مدى عجز خيالى وقصوره لأنها كانت أسرع وأجمل من أى توقع، أن الثورة لم يتنبأ بها أحد إلا الثورة نفسها». هكذا وصف المخرج أحمد ماهر المشهد الذى عاشه ويعيشه الآن.. ذلك المشهد الذى بدأت ملامحه الأولى تتشكل لحظة دخول ميدان التحرير معلنا عن مخاض جديد له. ماهر فى هذا الحوار يرفع الستار عن مشاعر وأحاسيس وأحلام ورؤى وماض وواقع ومستقبل عاشه كله فى لحظة واحدة. ●هذه المرحلة التى يتغير فيها المجتمع والمواطن المصرى هل وضعتك فى دائرة جديدة حول كيفية التعامل سينمائيا، بمعنى هل هناك أفكار ما بدأت تتولد أم لا؟ لم أشعر يوما أن هناك أمرا شخصيا ومؤرقا ومنتميا لى جدا مثل هذه اللحظة، والتى تحولت إلى أهم حدث، بل واكتشفت أن اغلب اللحظات التى أجلس فيها بمفردى لا يشغلنى شىء مثل هذا الحدث، ومن أول لآخر لحظة لم اخرج من الحدث على المستويين الذهنى والجسدى من ظهر يوم 25 يناير متجها لميدان التحرير إلى آخر يوم. فبمجرد خروجى من مجال ميدان التحرير أشعر بالبعد عن الشىء الجاذب لى بقوة. وعندما جاءت الدعوة لخروج الناس لأعمالهم بعد تنحى الرئيس والرغبة فى عودة الحياة لطبيعتها لم استطع تطبيق ذلك على نفسى فلست قادرا على العودة للحالة التى كنت عليها قبل الثورة، حتى المشاريع التى أنوى عملها الآن بعد انتهاء الحدث لست قادرا على عملها إطلاقا لأنى أصبحت سريع الغضب والتوتر، ولذلك بعد أن سألتنى عن مشاريعى السينمائية الجديدة تذكرت أنى سينمائى ولى مهنة أخرى يجب علىّ عملها لكن عندما كنت موجودا فى التحرير لم استسغ فكرة التصوير نهائيا، ولا مهتما باستثماره، ولم أكن أعلم ما الذى اهتم به سوى اللحظة التى اتواجد فيها بالميدان، بل واكتشفت أنه حدث لى هزيمة على المستوى المهنى ناتجة عن تصوراتنا من أن أى شخص يعمل فى مجال الفن والثقافة يتصور أن لديه تصورا للمستقبل ورؤية اوسع للصورة أكثر من أى شخص آخر، ولديه استنتاج لما يمكن أن يحدث ومخاوف وشكوك، ولذلك اكتشفت أن كل هذا تمت هزيمته وأن الواقع تجاوز الخيال بمراحل ووجدنا ان تصوراتنا وخيالنا ككتاب وفنانين وسينمائيين لم تصل لهذه المرحلة. ● لكن الفن لابد أن يكون شاهدا حيا على اللحظة؟ الفن خطوة أبعد ودورها ليس لحظيا، وإنما دوره سابق أو تالٍ، ولذلك فتلك اللحظة تحتاج إلى جدال فى كل شىء أولها فى تلك المفاهيم الخاطئة التى كانت مرسخة عندنا، فأنا قبل الثورة كنت شخصا فى غاية اليأس من كل شىء ولم يكن لدى أى لحظة تفاؤل أو شىء يبعث على المستقبل، وعندما وقع ذلك الحدث وخرجت منه وجدت أنه لابد أن أعيد حساباتى مرة أخرى لأنى تساءلت كيف أننى أعمل فى مهنة كهذه ولا استطيع تخيل أو توقع مثل هذا الحدث؟، والمفاجأة جاءت من الشعب وليس منى ولذلك عليّ الآن أن أكون مع الشعب لأسامح نفسى وألحق به وبالثورة التى سبقتنى وسبقت كل ردود الأفعال. هناك أشياء كثيرة جدا حدثت رأيتها وخائف لذاكرتى تعجز عن الاحتفاظ بها، وما حدث لى هو أن كم الزخم من الذكريات عن أشخاص وأماكن ولحظات كانت لدى عن المنطقة التى ولدت وعشت فيها تم محوها تماما وحل محلها لحظات وذكريات أخرى أكثر أهمية وأقوى فى الحضور، فلا أتذكر من ميدان التحرير إلا عندما اعتصمنا فيه وضربنا البلطجية ولا اتذكر من كوبرى قصر النيل إلا المظاهرات التى شاركت فيها وغيرها، والواقع عندما هدأت وفكرت فى الموضوع شعرت بالألم والخوف والتعب وكلها أحاسيس كانت من المفترض أن تحدث لى أثناء الحدث ولكنى شعرت بها لاحقا، وفكرت فى أنى من الممكن أن أتخلص من كل هذا عن طريق صنع فيلم على اعتبار أنه الشىء الوحيد الذى أعرف عمله ، لكن قررت تأجيل فكرة عمل الفيلم إلى أن وجدت اتصالات من بعض الجهات الانتاجية تطلب منى نقل تجربتى عن تلك اللحظات فقلت لهم إن التسجيلى ليس وقته والروائى متخوف من عمله، وعندما ألحوا علىّ أعدت التفكير مرة أخرى وفكرت فى عمل حاجة أبعد فيها عن الواقع نهائيا لأنه أكبر بكثير من صنعه، وهناك موضوع لدى هو قديم ولكنى أعيد صياغته وبلورته حاليا من خلال الحدث الذى جرى، وكان الموضوع قبل صياغته ينتهى بحدوث الخطر والكارثة ولكن لا يؤدى لهذه النتيجة الحادثة على أرض الواقع «الثورة». وكما ستكون هناك بهجة بالانتصار هناك مشاعر حزينة قاسية. ● لماذا؟ ما أحزننى هو ما بعد الثورة لأنى رأيت كما من الاشخاص مقسمين لفرق الأول يندرج تحت ما أسميه «كرنفال الاضطهاد» لأن كل واحد خرج يقول إنه مضطهد وذلك على اختلاف الشرائح، وهناك فريق آخر ادعى أنه مصاب وهذا ليس مخيفا، ولكن هناك آخرين استغلوا الثورة لأمجاد شخصية وهذا هو الشىء المهين بالفعل لأن الثورة ليست خامة لصناعة أغانٍ وأفلام سريعة فهى شىء ممكن تصنع عنها أفلام ناضجة توثقها وكتب تحللها وأغانٍ لمعانٍ أعمق بكثير عما ظهر مثل (يحميكم ويحرسكم). ● لكن هناك اعمالا فنية أوحت بحدوث هذا التغيير؟ لا يوجد من تنبأ بالثورة إلا الثورة نفسها وأى كلام غير ذلك ليس فى محله، والحقيقة أن الفن ليس تنجيما ولا بلورة زجاجية أرى فيها المستقبل، فالفن يحلل واقعا ويدرس الماضى ويحذر من مستقبل. ● وأنت فى منتصف الطريق كيف ترى المشهد إذن؟ المنتفعون عرفوا كيف ينفذون من خلال الثورة لتحقيق مكاسب شخصية فى حين أن فاعلى الثورة الحقيقيين مازالوا فى أماكنهم، وهذا ما يدعو للخوف والقلق، نحن نتحدث عن الديمقراطية، ولكن عندما نأتى لتطبيقها نجد السؤال المحير أين هؤلاء الذين تلاعبوا بالمجتمع رغم إدانتهم فى كثير من الوقائع والأحداث؟، لابد من محاكمتهم، وكذلك خروج الجماعات الاسلامية فى توقيت قبل الانتخابات؟ وموقف الاخوان المسلمين؟، فهؤلاء الجماعة بدأوا على استحياء يوم جمعة الغضب وكذلك إعلان الجماعة فى بدايات الثورة عن عدم مشاركتها رسميا فى أى مظاهرات ثم وجدناها عند أول اختبار تحولت لتساند الحزب الوطنى فى تأييد التعديلات الدستورية، فمن متى كان يتفق الحزب الوطنى والاخوان المسلمين؟. فعندما يعيدنا الاخوان للوراء ويسيسون الدين لصالحهم ويقولون إن من يقول لا للتعديلات حرام شرعا، فلم يمت الشهداء حتى ينتفع الإخوان والحزب الوطنى، بل ووصل الأمر إلى اجتماع السلفيين والجماعات الاسلامية معهم، وأصبحنا نواجه 3 توجهات دينية أصولية، وتكتشف أن الدستور تحول لشقاق يتمثل فى تخويف الاخوان من المسيحيين وتخويف المسيحيين من الاخوان وأصبح هناك كثير من الفزاعات، فهل هذا ما جنته الثورة؟ للأسف أن ميزة الثورة تحولت لعيبها الآن، وعدم وجود قائد لها أصبح عيبا. بل وأرى أننا لم نفعل شيئا سوى خلع الرئيس ومحاولة لترقيع الدستور فقط دستور مبارك ، فكل الوقت الذى تم استغراقه فى التعديلات كان من الممكن أن يستغرق لعمل دستور جديد. ● إذا كنت ترى أن المشهد ليس مبهجا.. فما هى النهاية؟ لست متشائما، ولكن النهاية طويلة على تخيلها، فهناك أكثر من نهاية، فحاليا نحن أمام نهاية مخزية لأن الثورة مازالت تحتاج إلى تفعيل، فالنظام ترك لنا الخراب وليس دولة لأن كل المؤسسات معطلة سواء الدستور أو الأحزاب المليئة بالخراب وغيرها من الأشياء، وأتوقع أزمة ستحدث لو تم عمل الانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية لأن الأولى كلنا متأكدين أن المجهزين لها هم الاخوان والحزب الوطنى، وتخيل أن الثورة قامت بهذه القوة ويتحول البرلمان لخليط من كلتا الجهتين؟، وهذا سيؤدى لعمل احتجاجات وستطول مدة عدم الاستقرار، وأى رئيس جمهورية سيكون على شيئين هو أنه لو جاء عن طريق تلك التعديلات سيكون ديكتاتورا آخر ولو غيّر الدستور وفعل انتخابات برلمانية فعندئذ سيكون مجرد راقص على الحبل، وسنعود لزمن توفيقات البرلمان. ● تقول إن الشعب لابد له من تقرير مصيره، ورغم أنه قرره بالفعل بالاستفتاء تراه مغيبا؟ هل يعقل بعد ما حدث للشعب من طاقة أن أقوم باستغلالها وأرجعه مرة أخرى للغيبوبة؟، وأجد أن كل المنتفعين لم تخفهم الثورة على الإطلاق، وهم يريدون عودة الأمور لما كانت عليه خوفا على مصالحهم، وهم يسمون الثورة اسماء مائعة ك«انتفاضة الشباب» و«ثورة الشباب» و«ثورة سلمية» و«ثورة الجيل الجديد»، وكلها مسميات تهدف لتهميشها وسحب قوتها وتحويلها لكيان رخو من الممكن التعامل معه، وإن لم تثبت الثورة قوتها وأن يثبت الشعب أنه غير قادر للتغيب والتنويم مرة أخرى سيعتقد هؤلاء أنها مجرد إفاقة. ● وماذا عن الفنانين؟ مازلت أجد أن جزءا كبيرا من السينمائيين مازالوا فى الغيبوبة وأشعر بالخزى لأنهم كانوا غير فاعلين، وأن جزءا كبيرا من كبار الفنانين على اختلاف تنوعاتهم كان دورهم هامشيا للغاية وغير مؤثر، أما جيل الشباب من الفنانين فوجدوا فى الثورة تناغما مع أحلامهم وآمالهم، أما البعض من جيل الستينيات فوجد الثورة مجرد حدث عابر، وعلينا أن ننتبه إلى أننا أخطأنا فى معرفة الجمهور لأننا تعاملنا على أنهم جهلاء ومغيبون ومضللون ويستسهلون، فأنا شخصيا عانيت من هذا الفكر عندما صنعت فيلما ليس له علاقة بمفاهيم السوق، حيث تمت مهاجمتى من كل من يمثلون فكر النظام تحت ادعاءات «الافلام الغامضة وغير المفهومة وأفلام المهرجانات وأن الجمهور لا يرغب سوى فى التسلية وانه أبسط من ذلك بكثير»، فى حين أنى أرى أنه فى تلك اللحظة وارد جدا أن يعرض فيلم (المسافر) ويستوعبه فمستوى ذكاء الجمهور أكبر بكثير، ولذلك علينا أن نتدارك ذلك الجمهور ونصنع أفلاما تناسبه وتناسب فكره، ولا نتعامل مع الجمهور كما كنا نتعامل معه قبل 25 يناير عن طريق السلعة السريعة. وأنا قبل الثورة كنت أكتب فيلما عن علاقة ثقافتين ببعض تداخل الحضارة المصرية مع الثقافة الغربية وليس فى مواجهتها، وأحاول إظهار ما الذى يمكن أن يصنعه هذا التداخل من خلال فكرة رئيسية تميز الثقافتين وهو فيلم اسمه «بأى أرض تموت»، وسيقوم ببطولته ممثلون أوروبيون ومن مصر سيكون عمرو واكد، أما فيما يتعلق بالفيلم الذى سيكون فى علاقة تماس مع الثورة واسمه «دم ومية» فلم آخذ أى قرار بشأنه على الاطلاق ولست متأكدا من صنعه أم لا.