«الأدب هو التاريخ الأكثر صدقا».. جملة نكاد نتفق عليها، وإن كان البعض يمطها لتشمل كل صنوف الإبداع. لكن الأدب كنص مكتوب يوازى التاريخ كنص آخر مكتوب، يمنح هذه الخصوصية شرعيتها. ضمن ذلك تأتى الرواية، فى مرحلة تالية للشعر الذى ظل لوقت طويل مدونة العرب الأم، لتكون ديوانا مؤرخا فنيا، وتأتى الرواية التاريخية تحديدا لترتكز على هذا التدوين، بشكلٍ يتجاور، فى النماذج الجيدة منه، الخيال، والفن، والإمتاع اللغوى، وتوريط المتلقى فى ذلك العالم الروائى القائم على النفخ فى روح الماضى. وطبقا للناقد عبدالله الخطيب فإن الرواية التاريخية الغربية نشأت فى مطلع القرن التاسع عشر، زمن انهيار نابليون، على يد الكاتب الاسكتلندى والتر سكوت 1771 1832م، فيما درج بعض كتاب الرواية التاريخية العرب على استلهام لحظات ومواقف قديمة من التاريخ العربى والإسلامى، لمحاولة إبراز الذات القومية فى مواجهة الغرب، واستلهمه آخرون فى رواياتهم بهدف بعث أمجاد الماضى وبطولاته، كعادل كامل ونجيب محفوظ وعبدالحميد جودة السحّار وفريد أبوحديد، وباكثير وغيرهم.. ما يعنى أن الرواية التاريخية التى تصدرت بداية الإنتاج الروائى العربى ثم خفتت مؤخرا، كانت وليدة أو قرينة هموم كبرى. الآن والعالم العربى، يعيش قضيته الكبرى، موزعة على بلدانه التى تستأنف تحررها، هل يمكن أن يبعث هذا الفن من جديد وهل لذلك مدى زمنى أمثل؟ فى التحقيق التالى محاولة للإجابة عن هذا السؤال... الكاتب الكبير بهاء طاهر قال إن الثورة كحدث كبير مهدت له وتلته أحداث أخرى، ستؤدى إلى ازدهار الرواية الواقعية بشكلٍ عام، وأضاف أنه قرأ مؤخرا ثلاثة كتب تناولت ثورة يناير هى: «كان فى ثورة» للكاتب محمد فتحى، و«مائة خطوة من الثورة» للكاتب أحمد زغلول الشيطى، و«2025» للكاتب مصطفى الحسينى» الذى تناول الثورة بمنظور فانتازى، ويرى أن مثل هذه الأعمال تعطى خامة هائلة لكتابة واقعية من نوعٍ جديد. وأشار طاهر الذى طالما لاحظ على الكتاب الشباب انشغالهم بذواتهم، والانغماس فى التعبير عن همومهم وأزماتهم الشخصية، إلى أن أحداثا مثل تلك التى نعيشها ستؤدى بالتدريج إلى أن تصبح الكتابة أكثر ارتباطا بالواقع. وتابع أن الروح التى كتبت بها الكتب، سالفة الذكر، وليست هذه الكتب تحديدا، التى لم يعتبرها الكاتب الكبير أعمالا أدبية وإنما شكل من أشكال التوثيق للثورة، هذه الروح تبشر بإمكانية إحداث نقلة فى الكتابة الأدبية. وقال إن هذه الأعمال، بل وحتى الصحف التى صدرت وتصدر خلال الثورة ستمثل مادة خصبة أكثر واقعية وحيوية للأعمال التاريخية التى ستتناول أحداث الثورة، متفوقة بذلك على كتب التاريخ التى تسجل الأحداث بشكلٍ جاف. وعن مكانة الرواية التاريخية فى الأدب العربى أكد بهاء طاهر أن جيلا بأكمله هو جيل الستينيات الذى ينتسب إليه، نشأ وتربى على هذه الأعمال، موضحا أن لها جمهورا هائلا فى كل العصور، لأنها تستجيب لفضولٍ فطريٍ لدى القارئ لمعرفة ما حدث، سواء فى بلدته أو فى البلدان والثقافات الأخرى. وأردف قائلا: إن الأمر فى جميع الأحوال يتوقف على مدى قدرة الكاتب على إحياء البيئة التاريخية التى يتناولها، وقدرته كذلك على الوصول للقارئ. أما فى رأى الكتاب الكبير جمال الغيطانى ف«سيمر وقتٌ طويل قبل أن يظهر إنتاج روائى يمكن اعتباره تأريخا للثورة»، لأن الرواية بعكس الشعر الذى هو فن سريع الاستجابة لأحداث الواقع، تحتاج إلى وقتٍ أطول لاستيعاب الأحداث ومن ثم إخضاعها للكتابة، خاصة و«الحريق لا يزال مشتعلا». لكن الأهم من الرواية التاريخية أو التأريخ الروائى فى رأى صاحب «الزينى بركات» هو تلك الروح التى خلفتها ثورة يناير 25 فى المناخ العام، ففى ثورة 1919 التى اعتبرها الغيطانى أقرب الثورات لثورة 2011، اكتسب المبدعون طاقة روحية استمرت حتى الستينيات، وتجلت لدى نجيب محفوظ فى الأدب، ومحمود مختار فى النحت، وحسن فتحى فى العمارة، وغيرها، متفقا بذلك مع بهاء طاهر فى إمكانية أن تدفع هذه الروح فى اتجاه كتابة جديدة. الغيطانى قال إن إنتاجه طوال ال40 عاما الأخيرة كان تعبيرا عن الظروف التى أدت لاندلاع الثورة، وكذلك أعمال جيل الستينيات وما تلاه من أجيالٍ وصولا للتسعينيات والتى كانت كلها، بحسبه، ممهدة لنفس الحدث. وأضاف أنه يعتبر كل ما يكتب عن الواقع المعاصر رواياتٍ تاريخية، لكن أحداث ثورة يناير ما زالت حاضرا، يمكن تسجيله بشكلٍ مباشر من قبيل التفاعل مع الواقع، بينما تحتاج روايات الثورة إلى مائة عام ربما قبل كتابتها، وستجدى وقتها الكثير من الأعمال التاريخية. مختلفة مع الغيطانى حول كون الرواية التاريخية تراجعت فى الفترة الأخيرة قالت الكاتبة سلوى بكر إن هذا النوع الروائى ازدهر مؤخرا لأنه يعيد قراءة التاريخ، والتدقيق فى المسكوت عنه تاريخيا، وملئ الفراغات التاريخية من أجل فهم اللحظة الراهنة، موضحة أن هذه إحدى مهام الكتابة الروائية الجديدة. «الرواية التاريخية موجودة فعلا، ولست الوحيدة المهمومة بكتابتها» تؤكد صاحبة «البشمورى» مشيرة إلى ظهور العديد من الروايات التى تصب فى نفس الاتجاه. كما تؤكد أن الرواية التاريخية ستزدهر «بالطبع» بعد ثورة 25 يناير، حيث سيتم إعادة النظر فى المتون والهوامش التاريخية، بمعنى أنه سيتم رصد كيف تحول الشعب المصرى ككتلة على هامش النظام والسلطة إلى متنٍ ينظر إليه بجدية واحترام، بعد أن أثبت قدرته على إعادة صنع التاريخ. كما عاودت التأكيد على أن أمام الرواية التاريخية فرصة عظيمة جدا لتكون أحد مصادر قراءة ومعرفة التاريخ الخاص بهذه الفترة. «بالتأكيد لو كانت رواية جيدة كنت سأتذكرها أو ستذكريننى بها أو بكاتبها» هكذا علق الكاتب سعد القرش على رواية قال إنه قرأها منذ وقتٍ طويل، أن كاتبها خرج فى إجازة عقب ثورة يوليو لكى يكتب رواية اشتراكية لتناسب المرحلة التى يعيشها وكانت هذه الرواية. القرش ذكر هذا فى سياق مقارنة بين هذه الواقعة وحدث قيام كبار المبدعين من كتاب وفنانين تشكيليين فى الستينيات بزيارة السد العالى، وهم نافضو أيديهم، أى بلا نية للسفر من أجل الكتابة أو الرسم، لكن ما حدث أن انفعل هؤلاء المبدعون فعلا بهذا المشروع الذى يعد الأضخم فى القرن العشرين، فتجلى فى أعمال أدبية وفنية مثلت فيما بعد كلاسيكيات القرن العشرين. «قارنى بين هذه التلقائية والقصدية التى كتبت بها الرواية السابقة، أو القصدية التى رسم بها رئيس هيئة قصور الثقافة الأسبق أحمد نوار عن مشروع توشكى الذى لا ندرك تفاصيله إلى الآن، مجموعة من الأعمال التى يمكن أن تعبر عن أى شىء ولا تعبر عن شىء». يضيف القرش موضحا أن القصدية والافتعال لا يصنعان فنا، وأن الافتعال كقصيدةٍ موزونةٍ بلا معنى. ويشير صاحب رواية «أول النهار» الحائزة مؤخرا على جائزة الطيب صالح السودانية، وتتكئ بدورها على التاريخ، إلى أن كل رواية هى فى ذاتها عمل تاريخى، رغم عدم اتفاق الكتاب أو النقاد على تحديد مصطلح الرواية التاريخية. ويضيف أن الأقدر على كتابة التاريخ بشكلٍ عام ليسوا معاصريه الذين لا مانع من أن يسجلوا شهاداتهم أو يومياتهم الخاصة التى يكتب فى ضوئها التاريخ، ثم يأتى المؤرخون فيما بعد لينظروا فى هذه الشهادات والتفاصيل، كما فعل الجبرتى عندما كتب تاريخ مصر وصولا إلى اللحظة التى عاش فيها. ويردف قائلا: «إن رواية الثورة ربما تأتى بعد خمسين أو مائة سنة، لكن ليس الآن على الإطلاق، بحيث يمكن استيعاب أحداثها دون افتعال، وإلا بدت كالشعار الذى لا يعيش لأنه ابن لحظة». وكصدى لصوت النقد قال الناقد الكبير د. محمد عبدالمطلب إن الرواية التاريخية كما هى عند جورجى زيدان والجبرتى لم تعد حاضرة فى الواقع الثقافى الآن، حيث أخذت فى الانطفاء ليحل محلها روايات تمزج بين التاريخى والواقع المعيش. واستشهد عبدالمطلب فى هذا السياق ببعض الأعمال مثل جمال الغيطانى فى مثل «حكايات المؤسسة» ويوسف القعيد فى «يحدث فى بر مصر» بما فيها من إشارات للفساد القائم وتوقعات للقادم، وصولا إلى رواية «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسوانى، والتى ترصد الفساد فى السلطة السياسية والاقتصادية والثقافية خلال مرحلة تاريخية بعينها، موضحا أنها مثلت نبوءة لما يمكن أن يقع فى الوطن العربى للخلاص من الواقع. أما الرواية التى اعتبرها عبدالمطلب نبوءة لثورة 25 يناير فهى رواية «أجنحة الفراشة» لمحمد سلماوى، لأنها، بحسبه، نجحت فى رصد الواقع التاريخى والاجتماعى والسياسى والحزبى لفترة ما قبل الثورة المصرية مباشرة، حيث ظلت بطلتها محاصرة فى ميدان التحرير، بين متظاهرين تشبه هتافاتهم هتافات متظاهرى 25 يناير، ولم يخلصها من الحصار سوى زوجها العضو بالحزب الحاكم، وهكذا سجلت الرواية معطيات الثورة ونتائجها رغم انها صدرت استباقا لها. هذا وقد لفت عبدالمطلب إلى نبوءة أخرى فى الخطاب الشعرى المصرى مثلها شاعر العامية الكبير سيد حجاب عام 2009 بديوانه «قبل الطوفان الجاى» معتبرا الديوان نبوءة، ليس فقط لما حدث فى مصر، وإنما فى كل العالم العربى. «الخطاب الأدبى كان له دوره طوال الوقت فى التمهيد للثورة» رغم ذلك يؤكد عبدالمطلب أن الخطاب الروائى يحتاج إلى فترة تأمل واستيعاب من أجل الكتابة. مشيرا فى هذا السياق إلى رد الكاتب الكبير خيرى شلبى على سؤاله: لماذا لم يكتب ما يسجل توقعاته عن الثورة، فقال إن ما حدث فى ميدان التحرير كان فوق التخيل والتنبؤ. «وأنا عن نفسى، والكلام لعبدالمطلب، سجدت لله سجدتى شكر يوم تنحى الرئيس، لأنه أحيانى لأرى هذا اليوم العجيب الذى هز العالم بأسره، حيث أصبحت الثورة المصرية هى النموذج المثالى الذى يتمناه الجميع، لدرجة أن أوباما دعا الشباب الأمريكى لأن يتعلم من الشباب المصرى».