فى حالة الاحتضار التى تعيشها بعض الأنظمة العربية ظهرت محاولاتها اليائسة فى عمليات التشويش على البث الفضائى لبعض القنوات الإخبارية.. اعتقادا من تلك الأنظمة انها باستطاعتها إخفاء الحقائق والتشويش عليها. وخسائر تلك التصرفات قد تتمثل فى نزيف مادى لتلك القنوات إذا كانت على ارتباط بمواد إعلانية أو خسائر معنوية بفقدان بعض من مشاهديها إذا طالت فترة التشويش، وقد ينقلب السحر على الساحر كما حدث فى النموذج المصرى مع الجزيرة عندما ازدادت شعبية القناة وتتبعتها الجماهير من تردد لآخر بحثا عن الحقائق وصارت ترددات الجزيرة وباقى القنوات تكتب على اللافتات فى الشوارع لإعلان الناس بها. وإذا كان الأمر كذلك فإلى متى تلجأ الأنظمة العربية للتشويش، وهل نتوقع فى ظل امتداد الثورات الشعبية فى دول أخرى أن تتسع دائرة التشويش لفرض سياسة إعلامية محددة؟ وهل يجوز ذلك فى عصر وصلت فيه تكنولوجيا البث الفضائى إلى أفق واسعة. ومعروف أن تلك الظاهرة قديمة فى تاريخها.. بدأ التفكير فيها منذ اختراع الراديو، والذى استخدمته الدول فى بث أخبارها أو بياناتها.. وارتبط التشويش دائما بحالة العداء بين الطرف المشوش عليه والطرف الذى يقوم بعملية التشويش.. فمثلا إبان نكسة 67 كان النظام المصرى يتعمد التشويش على إذاعة إسرائيل وإذاعة لندن وغيرها من الإذاعات.. فى محاولة منه لمنع تسريب أى خبر تريد القيادة السياسية اخفاءه عن الشعب أو حتى لمنع بيانات الترهيب التى كانت ترسلها إسرائيل للمواطنين المصريين.. وهكذا شيئا فشيئا تطور البث وتطورت أيضا أساليب التشويش عليه. الدكتور صفوت العالم يقول: «إن كانت بعض الأنظمة الديكتاتورية حاولت عرقلة مسيرة التكنولوجيا فى التفاعل بين الجماهير عن طريق حجب المواقع والاتصالات وبعض القنوات، ولكن كانت الظاهرة متفاقمة جدا مع النظام الليبى فى حربه ضد شعبه فشن ما نسمه حربا على القنوات من خلال أجهزة مخابراته واعتقل وطارد ممثلى تلك القنوات على أرضه فى محاولة منه لإخفاء الحقائق لأنه على دراية أن الإعلام المهنى قادر على كشف حقائق وجرائم أى نظام فاسد». والغريب أن معظم الأنظمة القمعية تتعامل مع الإعلام بنظرية «الاختفاء ولا تحاول تغيير ما ينقله الإعلام من مظاهر فساد ومطالب بالتغيير.. ظنا منها أن الحل فى إخفاء الحقائق وليس تغيرها». ويؤكد صفوت العالم أن التشويش فى مصر مثلا بدأ فى الستينيات واستمر فى السبعينيات فكان يشوش على إذاعة لندن وإذاعة إسرائيل ومونت كارول لأنها كانت تعرض جميع الحقائق، التى حرص نظام ناصر والسادات على إخفائها، وكانت تضع صافرة على تردد تلك القنوات لمنع وصول بثها. المهندس حمدى منير المسئول عن قطاع الهندسة بالتليفزيون المصرى يؤكد أن التليفزيون المصرى لا يخضع لأى تشويش لأن إرساله أرضيا وأى تشويش يتم على الفضائى فقط وأن محاولة التشويش على القنوات الأرضية تتطلب جهدا كبيرا لأنها تحتاج مبنى موازيا وطاقة كهربائية عالية وأجهزة كبيرة، وبعد كل هذا يمكن كشفه فى دقائق معدودة وتحديد الجهة التى تقوم بذلك.. وأكد أن المسئول عن التعامل مع أى تشويش هو إدارة القمر الصناعى المصرى النايل سات. أما أحمد أنيس المسئول عن إدارة النايل سات فيقول: لا توجد أى أحكام رادعة للجهة التى تقوم بالتشويش. فلو استطعنا تحديد الجهة التى تقوم بالتشويش على أى فضائية يكون أقصى عقوبة لها هو إنذار! ويمكن إضافة خطاب للجهة، التى تقوم بذلك ولا نستطيع محاسبة تلك الجهة لذا أطالب بسن قوانين رادعة لمن يقوم بتلك الأفعال لأنها تسبب خسائر للقنوات. وعن الخسائر التى يمنكن أن تحدث قال تنقسم إلى خسائر مادية إذا كانت القناة مرتبطة بإعلانات وغيرها أما المعنوية فتكون بسبب إذا كانت القناة لها اسم وثقل فى السوق الإعلامية فتهدد بخسارة مشاهديها نتيجة هذا التشويش. الدكتور حسين أمين الخبير الإعلامى بالجامعة الأمريكية يفسر عملية التشويش قائلا: تقوم أجهزة حديثة بإرسال إشارة مصاحبة على الإشارة الصاعدة للأقمار، وبالتالى تقوم بالتشويش على الإرسال بشكل كامل، وتلجأ بعض الأنظمة إلى هذا الفعل نتيجة لانعدام الرقابة على الأقمار الصناعية، وما تحمله من قنوات تصل مباشرة للمتلقى. ولكن يؤكد أمين أن هذا التشويش فى العصر الحديث صار لا مفعول له نتيجة لحالة التنوع التى نعيشها الآن مع مئات المحطات، وقد كان يجدى قديما مع الإذاعات المركزية، والتى كان لا يوجد غيرها، ولكن الآن تكون كل النتيجة هو مضايقة للجمهور ولأصحاب القناة. ويرى أمين أن سبب عمليات التشويش التى تتم الآن ليست فقط لأسباب إخفاء الحقيقة ولكن يكمن خلفها أيضا عداءات دولية فمثلا يشوش معمر القذافى على كثير من القنوات السعودية نتيجة لعداء شخصى بين الدولتين. ويشير أمين إلى أن التشويش يتم أيضا فى الدول المتقدمة فمثلا نرى أن بعض القنوات المعادية لأمريكا يتم التشويش عليها كقناة الزريقاء والتى اختفت تماما.. كما أن أوروبا تتبع أحيانا نظام المنع كما حدث مع قناة المنار التابعة لحزب الله. وعن كيفية الحد من تلك العمليات يذكر أمين أنهم قاموا عام 2008 بإعداد وثيقة لتنظيم التعامل مع البث الفضائى وتضمنت كيفية التعامل مع تلك العمليات ومحاولة سن قوانين خاصة بها، ولكنها اختفت ولم تنفذ على أرض الواقع ويفسر الأمر بأنه لابد أولا من رفع يد الحكومات وأجهزتها الإعلامية وإطلاق يد المتخصصين والجمعيات الأهلية فى الأمر حتى يتسنى العمل بحرية. وعلى الجانب الآخر، يتحدث أمين عن كيفية تعامل الغرب منع هذه العمليات، وقال: الدول الأوروبية وضعت عام 1989 وثيقة AVDMS وهى وثيقة تنظيم البث المسموع والمرئى فى أوروبا، وفى عام 2009 أصبحت تلك الوثيقة تحكم 45 دولة بعد أن جرى تنقيحها طوال السنوات العشرين الماضية لتتحكم فى كل ما يتعلق بعمليات البث ومنها بالطبع عمليات التشويش.. ولذا يرى أمين أننا فى حاجة للإسراع بمثل هذه المواثيق المنظمة والتى يعوقها أحيانا بعض التفاصيل الخاصة بالأداء الاعلامى فمثلا مازال لدينا بعض الحساسيات التى تتعلق بالأداء الإعلامى ككل فى الأديان والسياسة.. ويرى أن أوروبا نتيجة لتخلصها من كثير من تلك التفاصيل استطاعت تنظيم عملية الإعلام بشكل كامل، ولكننا أمامنا عدة عوائق وقد واجهته بالفعل أثناء إعداد وثيقة التنظيم حيث طلب منهم أشياء تتعلق بالرموز السياسية والدينية.رغم تأكيده أن الجمهور الحقيقى للسينما فى حالة اعتكاف