عندما قرر الخديو إسماعيل تشييد كوبرى قصر النيل، لم يكن يعرف أنه سيتحول بمرور الوقت إلى «فسحة» للبسطاء، يسهم فى لحظات «روقانهم إن وجدت» بعد أن تتخلص القاهرة من شوائبها النهارية، وتتذكر أيامها القديمة، وتثبت لنا أنها ما زالت من أجمل عواصم العالم. أراد إسماعيل إقامة جسر يصل ضفتى النيل بين ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا) وجزيرة الزمالك، لتسهيل الوصول إلى سرايا الزمالك التى تحولت فيما بعد إلى قصر لطف الله «فندق عمر الخيام ثم فندق ماريوت حاليا»، وجلب خبراء تخطيط المدن والحدائق من أوروبا فى إطار مشروعه الكبير لتحويل القاهرة إلى باريس الشرق، وتم الاتفاق مع إحدى الشركات الفرنسية وبدأ العمل فى 1869 ليكتمل البناء عام 1872 بطول (406 أمتار) وعرض (10.5 متر)، وتكلفة 113 ألف جنيه تقريبا، ثم أمر بصنع أربعة تماثيل من البرونز لسباع جالسة، حيث كان يلقب بأبوالسباع، وتم الاتفاق مع الخواجة جاكمار أحد أشهر المثالين الفرنسيين فى القرن التاسع عشر لنحت التماثيل، وأشرف على تنفيذها كل من المثال أوجين جليوم، والمصور الشهير جان ليون جيروم، وأمر إسماعيل بفتح حساب مالى بمبلغ 198 ألف فرنك باسم جيلوم وجيروم لتنفيذ التماثيل، وبالفعل تم نحتها ووضعت فترة فى ديوان البحرية بالإسكندرية إلى أن نقلت لتجلس عند مدخلى الكوبرى. وللتأكد من صلابة الجسر أُجرى اختبار بتسيير فرقة من الطوبجية (المدفعية) مكونة من ستة مدافع عبرت من فوقه أكثر من مرة. جاء افتتاحه متزامنا مع افتتاح قناة السويس فعبرت من فوقه كوكبة من ملوك وأمراء العالم إلى سراى الزمالك، حيث أقيمت احتفالات افتتاح القناة وعلى رأسهم أوجينى إمبراطورة فرنسا، وفرنسوا جوزيف إمبراطور النمسا. ومن المفارقات أن إسماعيل أصدرا أمرا بفرض رسوم للعبور فوق الكوبرى تحددت طبقا لنوع العابر، فالرجال والنساء مثلا بربع قرش، والأطفال حتى ست سنوات والغزلان معفون من الرسوم والعربات المحملة بالبضائع قرشين والفارغة قرش. جاءت تسميته نسبة إلى «قصر النيل» الذى بناه «محمد على» لإحدى بناته، والذى حوله «الملك فؤاد» فيما بعد إلى ثكنات عسكرية، ويشغل مكانه حاليا فندق «النيل هيلتون» و«جامعة الدول العربية»، وفى عام 1920 قرر «فؤاد» تطوير الكوبرى وترميمه ولكن يبدو أنه حدثت مشكلة فى عملية التطوير وساءت حالته، فمنع العبور من فوقه وأصدر قرارا بهدمه فى أبريل 1931 وبناء كوبرى جديد فى نفس المكان، يفى بحاجة النقل المتزايدة والحمولات الحديثة، ويتلاءم مع ما وصلت إليه القاهرة من تطور فى العمران، ووضع حجر الأساس فى 4 فبراير عام 1931 وأطلق عليه اسم (كوبرى الخديو إسماعيل) واتفق مع مجموعة من أكبر المهندسين الإنجليز، ومن بينهم «يررالف فريمان» مصمم جسر ميناء سيدنى باستراليا، وأصبح عرضه (20 مترا) وتكلف 291.955 جنيه، وافتتحه فؤاد فى مارس عام 1933. وأوصى بمراعاة الناحية الجمالية فى التصميم الجديد، وتم بناء منارتين من الجرانيت عند مدخلى الكوبرى، وعلى قمة كل منهما مصباح، واحتفظ أمام كل واحدة بأحد السباع الأربعة، تخليدا لصاحب المشروع الأصلى (أبوالسباع).