هذه هى الندوة التى دعانى إلى حضورها الأستاذ نجيب محفوظ، وهى الندوة التى بدأت بها، وانطلقت منها! فقد سبقها ندوات، وتبعها ندوات أخرى. وتقع ندوة قصر النيل هذه، فى مرحلة وسطى بين ندوات محفوظ الكثيرة. فعلاقته بالندوات قديمة جدا، ويسبقها علاقته بالمقاهى حيث كان يلتقى الأصدقاء والمعارف، أما الندوات فبدأت مذ أوائل الأربعينيات، حين تكونت لجنة النشر للجامعيين التى أنشأها عبدالحميد جودة السحار، وشارك فيها نجيب محفوظ وآخرون، منهم عادل كامل المحامى والروائى. وكانت تعقد كل يوم جمعة فى كازينو أوبرا، وتمتاز عن الندوات الأخرى بأنها ندوة أدبية بمعنى الكلمة، إذ يحضرها عدد من الأدباء والنقاد والمثقفين، ويناقشون كتابا كل أسبوع، ومعظم موضوعاتها ثقافية وفكرية وأدبية. بالإضافة إلى الحديث عن نشر مؤلفات أعضاء لجنة النشر بطريقة متتابعة. وقد ظلت هذه الندوة مستمرة حتى بعد انقلاب يوليو 1952. وصادف فى يوم جمعة أن جمال عبدالناصر كان سيمر فى شارع الأوبرا، فلاحظ الأمن مجموعة من الأشخاص يتجمعون فى كازينو أوبرا، فجاء الأمن وسألهم: من أنتم؟ ولماذا تجلسون هكذا؟ وهل معكم تصريح؟ وعندما قالوا للضابط هذا نجيب محفوظ، قال الضابط للأستاذ : أين تحقيق شخصيتك؟ فقدمه له الأستاذ، فنظر إليه الضابط وقال إن هذه التجمعات ممنوعة، ولابد من وجود تصريح من الأمن لعقد مثل هذه الاجتماعات! فسأله الأستاذ: ومن أين نحصل على مثل هذا التصريح؟ قال الضابط: من قسم الشرطة التابع له الكازينو. فكان الأستاذ يضطر إلى الذهاب إلى القسم حتى يحصل على تصريح بعقد الندوة، وتم الاتفاق على أن يذهب فى كل أسبوع أحد أعضاء الندوة إلى قسم الشرطة للحصول على التصريح! ليس هذا فقط، بل استتبع ذلك حضور أحد المخبرين إلى الندوة، لتسجيل كل ما يقال فيها، ولأن كثيرا مما كان يقال من أحاديث أدبية وثقافية وفكرية، كانت تستغلق على قدرة المخبر على المتابعة والتسجيل، أصبح المخبر يطلب من الأستاذ فى نهاية كل ندوة أن يساعده فى تسجيل ما دار فيها من أحاديث ومناقشات وحوارات! عندئذ كان لابد من البحث عن مكان آخر للندوة. ومن ثم انتقلت الندوة إلى مقهى ريش، وكانت كذلك ندوة أدبية، وإن ظهرت فيها أيضا المناقشات السياسية الحامية، فأغلب الحضور كانوا يساريين أو شيوعيين، ومنهم عدد كبير من كتاب الستينيات. ولأسباب أمنية أيضا توقفت هذه الندوة، إذ بدأت مقهى ريش تغلق فى موعد الندوة، كل يوم جمعة، حتى لا تستقبل أعضاء ندوة نجيب محفوظ! وحينئذ ظهر كازينو قصر النيل كبديل قد يصلح لعقد الندوة، ومن العجيب أن الندوة حين كانت تنتقل من مكان لآخر، كانت تتغير ملامحها، ويتغير بعض أعضائها، وتتغير الموضوعات المطروحة للنقاش أيضا، كان محفوظ يرجع ذلك إلى تغير المناخ العام فى البلد، فلكل عصر موضوعاته، ولكل فترة رجالها، ومن ثم فندوة قصر النيل كانت تطغى فيها المناقشات السياسية على الحوارات الثقافية، كما كانت تثور خلالها فى بعض الأحيان مناقشات حامية، وحوارات عنيفة، وقد يحدث نوعا من التراشق اللفظى، فيغضب البعض، وينسحب من حضور الندوة! ذهبت إلى الندوة من أجل نجيب محفوظ، لكى أراه وأستمع إليه، وهو يدلى بأفكاره وآرائه وتحليلاته، ولكنى وجدته قليل الكلام جدا، ووجدت من يكادون لا يتوقفون عن الحديث أبدا، فجلست مستمعا على مدى سنوات عدة، دون تقريبا أن أتحدث إلا من بعض الأسئلة التى كنت أوجهها إلى الأستاذ من حين لآخر، حتى أتمكن من الاستماع إليه، وهو يجيب على بهدوء وإيجاز ورقة. فمن هم رواد هذه الندوة؟ أعترف أننى لا يمكن أن أحصرهم جميعا، وذلك لا يعود إلى أنى نسيتهم، ولكن لأنهم كانوا يتغيرون من حين لآخر، فالندوة استمرت لسنوات طويلة، والبعض كانوا ينتظموا فى الحضور لفترة ما طالت أم قصرت ثم ينقطعون عن الندوة، وقد وصل الأمر إلى درجة أن هناك من كانوا يسافرون بالشهور الطويلة، بل بالسنوات، ثم يعودون فجأة على موعد الندوة، فكأنهم ما تركوها من قبل! طبعا يوجد رواد دائمون فى كل ندوة، أولهم وأكثرهم التزاما بمواعيد الندوة هو الأستاذ نجيب نفسه، ثم الراحل الكريم مصطفى أبوالنصر، وهو أديب أصدر عددا من الروايات والقصص، ثم المسرحى اللامع على سالم، والناقد الراحل محمد أحمد عطية، والمحامى الراحل هارفى أسعد، وهو من أقدم أصدقاء الأستاذ، ويليه فى الأقدمية مصطفى أبونصر. وقد واظب على الحضور لفترة طويلة المرحوم د.فرج فودة، والأديب نعيم صبرى، والمهندس محمد الشربينى وهو فنان تشكيلى أيضا، ود.محمود الشنوانى، والمهندس محمد الكفراوى، والمهندس سامى البحيرى (وقد هاجر إلى أمريكا)، والمهندس إبراهيم سالم، والمخرج هاشم النحاس، والشاعر عادل عزت، ود.فتحى هاشم، ود.محمد عبدالوهاب، والمهندسة عزيزة الياسرجى، وعالم النبات د.لطفى بولس، وابنه إلهامى بولس، والمحاسب بليغ بطرس، والأديب أحمد صبرى أبوالفتوح، ود.أحمد تيمور (الشاعر والأستاذ بكلية الطب)، ود.عمرو حلمى، والمصرى المغترب فى ألمانيا أسامة عبدالكريم، والأديب الراحل سوريال عبدالملك، والأديب سعيد الكفراوى، والأديب جمال الغيطانى، والأديب يوسف القعيد، والأديب سليمان فياض، والأديب جميل عطية إبراهيم، والمثقف الراحل إبراهيم منصور، والأديبة الراحلة نعمات البحيرى، والناقد عبدالرحمن أبوعوف، والشاعر الراحل محمد عفيفى مطر، ود.نوال السعداوى، ود.شريف حتاتة، والطالب الذى أصبح بعد ذلك محاميا يوسف عزب. وثمة من حضروا إلى الندوة مرة واحدة فقط، أو مرات قليلة، ومنهم: الأديب ثروت أباظة، والشاعر السورى أدونيس، ود.جلال أمين، ود.حازم الببلاوى، ود.علاء الأسوانى، والفنانون: فاتن حمامة، وعادل إمام، ونادية لطفى، وسعيد صالح، وغيرهم. وقد تضاعف عدد الحضور بعد حصول الأستاذ على نوبل فى أكتوبر 1988. فقبلها كان عدد حضور الندوة من ثمانية إلى عشرة أو اثنى عشر على الأكثر، أما بعد نوبل، فكان العدد فى بعض الأحيان يصل إلى أربعين وخمسين شخصا، معظمهم حضروا لكى يشاهدوا صاحب نوبل! المهم أن هذه الندوة الأسبوعية، كل يوم جمعة، من الخامسة وحتى الثامنة والنصف بالضبط، والتى كنت أحضرها بانتظام شديد، وبغض النظر عن أى شىء آخر فى حياتى، بما فى ذلك دراستى الجامعية أو حتى عملى بعد ذلك، هذه الندوة لم تكن ممتعة بالنسبة لى، إذ لم تشبع شوقى للأحاديث الأدبية، ولم ترض رغبتى فى المعرفة، فأغلب الأحاديث مكررة، ومعادة بنفس الطريقة، فذات الأشخاص المحبون للكلام، يسيطرون على الندوة، وثمة أحاديث جانبية، وحوارات خارج الموضوع! إنما الشىء الوحيد الذى كان يبهرنى فى هذه الندوة، فهو شخصية نجيب محفوظ الساحرة، فلم يعد يهمنى كثيرا ما يدور فى الندوة، وإنما ما كان يهمنى حقا، هو الاستماع إلى كلمات محفوظ القليلة، أو تعليقاته الساخرة، أو قفشاته الرائعة، أو ملاحظاته الثاقبة، أو إشارته المعبرة، أو لفتاته الذكية. نجيب محفوظ وحده، هو من تعلقت به، وداومت بانتظام على حضور الندوة من أجله. كان موعد الندوة فى تمام الساعة الخامسة، ولكنه كان دائما ما يحضر قبل الخامسة، حيث يخرج من بيته فى تمام الرابعة، ويمشى بمفرده حتى قصر النيل، فيصل فى الخامسة إلا ربعا أو إلا عشرة، فلا يجد أحدا فى الغالب سوى مصطفى أبوالنصر وأنا. فنستمتع معا بجلسة هادئة وأدبية قبل حضور الآخرين، وأذكر أننى فى إحدى المرات، قلت له: يا أستاذنا السياسة تأكل معظم أحاديث الندوة، حتى نكاد نخرج منها دون كلمة واحدة فى شئون الأدب ولا الثقافة، فرد على الأستاذ ضاحكا: لنلحق ونتحدث بسرعة فى الأدب، قبل أن يأتوا ويتحدثوا طول الوقت فى السياسة.