بالأمس عاد المصور الصحفى شريف سنبل من فنلندا بعد احتفاء لاقاه فى معرض لمجموعة من صوره حول معمار مصر بوصفه الراوى لتاريخها. صور المعرض كانت رواية سنبل لحكاية مصر كما يحب أن يراها وينقلها. صور لمعابد يهودية وكنائس قبطية وكاثوليكية ومساجد ومدارس ومشافٍ مملوكية، «وكلها عمارة مصرية بديعة تشهد ليس فقط لقدرة المصرى عبر عصور متتالية على البناء والتشييد ولكن أيضا لمدى تعدد روافد الثقافة المصرية وبالتأكيد، أو هكذا أرى، لمدى تسامح المجتمع المصرى، فبالرغم من كثير من آيات التعصب التى نراها فى أحيانا وتصدم مشاعرنا وخيالنا عن مصر فإن بقاء هذه المبانى واحترام المصريين لها هو فى النهاية دليل على قدرة المصرى الحقيقية على التسامح»، هكذا يؤكد سنبل. النظرة الأولى لصور سنبل التى وجدت طريقها إلى معرضه بفنلندا، والتى كانت مجموعة منها قد عرضت بمعرض أقيم فى دار الأوبرا المصرية بأكتوبر، لا تمكن المشاهد بالضرورة من التعرف على هوية المبنى. فإذا اختفت المآذن والصلبان وصور يسوع المسيح قد يختلط الأمر على من ينظر فلا يعرف أى دور عبادة قد التقطته عدسات كاميرا سنبل، وبالتأكيد يصعب على الناظر، حتى ولو كان يعلم الفرق، أن يقرر مباشرة ما إذا كان الجامع الماثل فى الصورة هو من آثار تركها الفاطميون الشيعة أو المماليك السنة، كما يصعب أيضا الجزم بما إذا كان رواق الكنسية المطل بصليب لا تظهر نهايته هو لكنسية قبطية أم كاثوليكية. هذا هو بالتحديد ما تراه عين سنبل وما تعشقه أن فى مصر مبانى جميلة ورائعة بناها مصريون لهم انتماءات دينية وتلك هى طريقتهم فى العبادة والصلاة»، ولهم حب للفن والجمال وتلك هى مبانيهم التى شيدوها. عبر قرابة أربعة عقود أمضاها سنبل فى التصوير اكتنز أرشيفه بلقطات لا نهائية لمعمار مصر، بداية من العصر الفرعونى وحتى يومنا هذا. معابد فرعونية قابعة على ضفاف النيل برسوم يضطر من يصورها أن يمضى الوقت فى دراستها وفهم ما تنقله من رسائل، ومعابد ومساجد وكنائس يعشق سنبل تصويرها متقاربة ومتقاطعة على طرقات لا نهائية وقصور ومنازل بعضها فى قلب القاهرة الراقى وبعضها فى بلدات ببحرى والصعيد كانت يوما ضيعات لأسر ثرية ارتبطت أسماؤها بتاريخ مصر السياسى والفنى عبر القرنين الماضيين. بعض من هذه الصور وجد طريقه لكتب مصورة يعتز بها سنبل رغم علمه أن الكتاب المصور ليس على قائمة المبيعات فى مصر. «صحيح أن هذه الكتب لا تلقى رواجا وصحيح أن الكتاب المصور لم يجد بعد التقدير الذى يستحق فى مصر وبلدان عربية كثيرة، ولكن هذه الكتب تحتفظ فى صحفاتها بصحفات من تاريخ مصر، بعضها قد يبقى وبعضها قد يذهب أحيانا لأن كل شىء يذهب وأحيانا لأن الاهمال يجعل الاشياء تنزوى وتموت». فى كتابه «قصور مصر وفيلاتها 1808 إلى 1960» يلتقط سنبل الذى يقول بمعزة خالصة: «أحب عبدالناصر» لقطات لمبانٍ لم تكن بالضرورة محل اهتمام وإعزاز كبيرين من ثورة يوليو ربما لأنها كانت ترمز لعهد ملكى رأت الثورة كما رأى الكثير من المصريين على الأقل فى حينه أنها أساءت لمصر. بعيدا عن حديث السياسة وبعيدا عن تقييم الثورة أو العهد الملكى، يصر سنبل أن «هذا التراث المعمارى الرائع هو تراث مصر فى كل وقت وهو تراث جدير بالحفاظ عليه والاحتفاء به». فندق المناهوس بجوار الاهرامات الشامخة والوينتر بالاس بالاقصر وكتراكت بأسوان، تلك المبانى التى يحرص رئيس الجمهورية بنفسه على متابعة تطورات تجديدها، تجد مكانها فى الصفحات المصقولة لكتاب «قصور مصر وفيلاتها». الكتاب نفسه من خلال صور فيلا يوسف باشا سليمان بالعباسية يذكرنا أن العباسية الكائنة بشرق القاهرة كانت ذات يوم حيا أحسن حالا وأرفع شأنا مما آلت إليه الامور الآن، ومنزل فخرى بك بجرجا يجعل من يتصفح الكتاب عما إذا كانت جرجا التى بنى بها فخرى الجد ذلك المنزل المصرى الرائع هى نفسها جرجا التى جابها منذ أيام قليلة منير فخرى عبدالنور، العضو الوفدى البارز، بحثا عن دعم لانتخابات مجلس الشعب التى خاضها عن بلدة أسرته التى كانت يوما وفدية بلا مجادلة. وفى كتب أخرى مثل «رحلة النيل» و«المعمار المملوكى فى مصر» و«كنائس مصر» يأخذ سنبل كاميرته وقارئ الكتب التى تدون أيادٍ أخرى غير يديه كلماتها ليرى أن خطوط الحضارات التى عبرت وادى النيل كثيرا ما تتلاقى أو تتوالى فى نقاط غير متباعدة فحصاد محصول قصب السكر فى مصر يجرى بالقرب من الآثار الفرعونية، وبائعو التذكارات الفرعونية يتحركون بمنتجاتهم فى أجواء قلعة صلاح الدين والطريق الذى سلكته العذراء مريم فى مصر وهى تحمل يسوع طفلا مازال يخطو عليه مصريون راغبون فى بركة العذراء وذكرى مرورها المقدس. ولكن مصر التى يراها سنبل ويعشقها ليست فقط آثار ولو رائعة بل هى بالاساس الناس من مختلف الأطياف والألوان والاهتمامات. وفى كتابه «المولد» وكتابه «عشرون عاما على افتتاح الاوبرا» يصور سنبل مصريين ومصريات يتضرعون إلى الأولياء والقديسين طلبا للسعادة واليسر، ومصريين ومصريات يقدمون عروض باليه وموسيقى كلاسيكية وكذلك عروض فنون شعبية وموسيقى عربية. يقول سنبل «بالنسبة لى هذه هى مصر وهؤلاء هم المصريون.. أماكن جميلة حتى لو كانت فقيرة وناس بديعة حتى لو كانت بسيطة الحال». فى صور سنبل النساء والرجال الذين يصورهم وهم يتجولون فى الموالد، من أقصى شمال مصر إلى أقصى جنوبها، أو هم يؤدى عروضهم على مسارح الأوبرا لا تبدو مختلفة كثيرة عن صور النساء والرجال التى رسمها يوما الفراعنة على جدران معابدهم والتى صورها سنبل أو عن رجال ونساء يضيئون الشموع فى مولد السيدة زينب بالقاهرة أو مولد السيدة العذراء بأسيوط. «صحيح لأن المصريين كانوا دوما محبين للحياة ومحبين للصلاة.. يصلون ويتناولون الطعام ويرقصون.. يبحثون عن السعادة فى الدنيا وعن البركة للآخرة»، هكذا يرى سنبل.. وربما هكذا يبدو الأمر لمن يشاهد صور سنبل فى المعارض أو تلك المجموعة فى كتب تسعة.