فى القرن السابع عشر بدأ الدارسون الأوروبيون فى إدراك أهمية العلوم العربية والإسلامية، وبدأ اهتمامهم يتجه نحو منطقة الشرق الأوسط للاستفادة مما وصل إليه العلماء هناك لإنارة بلادهم. مع هذه الصحوة تأسست دار نشر «بريل» عام 1683 لتستمر حتى اليوم فى تقديم مؤلفات الكتاب من جميع الجنسيات عن تاريخ الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية والآسيوية وكتب العلوم واللاهوت، قبل معرفة العرب والمسلمين أنفسهم للطباعة، مستهدفة جمهور محدود من الأكاديميين والباحثين. «دائما كنا ننشر باللغة العربية، وأيضا بالصينية واليابانية وجميع اللغات الأخرى، وحاليا نصدر 500 كتاب سنويا، منها نحو 60 عنوانا عن الشرق الأوسط والإسلام بالإضافة إلى المجلات، وفى البداية كانت أغلب الكتب مزيجا من العربية واللاتينية وما زال لدينا نسخ من هذه الكتب» بحسب يود إليتش مدير المطبوعات الخاصة بالإسلام والشرق الأوسط وأفريقيا فى دار «بريل» التى تحولت من شركة عائلية إلى شركة مساهمة موجودة فى البورصة عقب وفاة آخر نسل العائلة. من أهم إصدارات دار «بريل»، التى تتخذ من مدينة لايدن الصغيرة بهولندا مقرا لها، دائرة المعارف الإسلامية، التى نشرت طبعتها الأولى عام 1906 حيث كان هناك اهتمام كبير بالتاريخ والثقافة الإسلامية، ثم صدرت الطبعة الثانية عام 2005، والتى ضمت أعمال نحو ألف كاتب مشارك فى 13 مجلدا لتمتد إلى الإسلام خارج منطقة الشرق الأوسط، وحاليا يتم الإعداد للطبعة الثالثة التى ستصدر عام 2025، بعدد أكبر من المؤلفين. فى دردشة مع الدكتور عماد أبوغازى، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، وأستاذ الوثائق والمكتبات بكلية الآداب جامعة القاهرة، عرفنا منه أن دائرة المعارف الإسلامية هى: «أهم مرجع لكل المتخصصين فى التراث العربى والإسلاميات بمجالاتها المختلفة، فلسفة، تاريخ، علم كلام، إلى آخره، وقال إنها عمل فى غاية الأهمية، له عدة طبعات شارك بها مجموعة من أهم المستشرقين والمتخصصين فى العالم. عرفنا أيضا من أبوغازى أنه كان قد تمت ترجمة 17 مجلدا من دائرة المعارف الإسلامية فى مصر عن طريق دار الشعب. نعود ليود إليتش مدير دار «بريل»، الذى قال فى حواره مع «الشروق»، «يظهر الفارق بين الطبعات فى موضوع مثل ألف ليلة وليلة، فهناك 4 نسخ بأربعة مفاهيم مختلفة بحسب الكتاب، الذين تناولوها بالدارسة مع مرور الزمن». وتبحث دار «بريل» حاليا إحياء فكرة ترجمة الموسوعة الإسلامية للعربية التى حاولت دار الكتب المصرية ترجمتها من قبل إلا أنه لم يتحدد بعد كيف سيتم تنفيذها، حيث تضم 16 ألف صفحة مما يجعله مشروعا مكلفا جدا. ورغم أن «بريل» اهتمت بطباعة الكتب، التى تتناول التاريخ والثقافة العربية والإسلامية منذ أكثر من 300 عام فإنها لم تعتمد فى هذا الصدد على أصول الكتب العربية المشهورة بين الباحثين والدارسين، لكنها عمدت إلى نشر كتب لمؤلفين من جميع الجنسيات عن هذه المواضيع. يفسر إليتش هذا بأنه فى ذلك الوقت كان كثير من المؤلفين مهتمين بالكتابة فى هذه المواضيع «ونحن كنا نعمل من وجهة نظر مؤلفينا»، إلا أنه وعد بأن هذا الوضع سيتغير قريبا، حيث تعد «بريل» لمشروع ضخم لتحويل المخطوطات العربية الأصلية، والتى ألفها علماء فى الشرق الأوسط، إلى مستندات رقمية لتكون متاحة للجميع، مشيرا إلى أن داره تعمل فى هذا المشروع بالتعاون مع مكتبات فى الإسكندرية، ولندن، والولايات المتحدة والتى يوجد لديها العديد من المخطوطات. ومع مرور السنوات وتغير أنماط النشر نجحت «بريل» فى تطوير نفسها لتدخل مجال الطباعة الرقمية والنشر على الإنترنت، فبحسب إليتش «كل موسوعاتنا موجودة على الإنترنت بالإضافة إلى المجلات الدورية، فلدينا نحو 10 ملايين صفحة على الإنترنت حاليا». ويضيف مدير دار النشر الهولندية أن «نمو النشر على الإنترنت كان أكبر من المتوقع، فنحو 40% من أعمالنا يمكن الإطلاع عليها عبر الإنترنت مقابل اشتراك مالى لتعويض الاستثمارات التى تم ضخها»، موضحا أنه على عكس ما يعتقد الناس فإن النشر الإلكترونى أغلى كثيرا من الطباعة الورقية، «حيث يشمل تكلفة البنية التحتية والبرامج ومحركات البحث، وكل الخبراء الذين نستعين بهم، وإضافة الصور والفيديوهات، كما أن الكتاب الورقى يمكن أن يبقى لمئات السنين لكن الموقع الإلكترونى لا يبقى أكثر من 5 سنوات». وعن مدى تأثير الخطاب المعادى للإسلام الذى انتشر فى العالم مؤخرا، وما تبعه مما عرف بظاهرة «الإسلاموفوبيا»، أكد إليتش أن هذا لم يكن له أى تأثير سلبا أو إيجابا على عمل دار النشر «فنحن نركز على سوق محدودة تضم الأكاديميين والباحثين، كما أننا نحاول أن نكون محايدين قدر المستطاع فى التعامل مع كل الكتب التى تتناول كل الديانات، وعندما ننشر عن الدراسات الإسلامية لا تكون من وجهة نظر دينية ولكن تاريخية وثقافية». كما يوضح إليتش أن «بريل» تحاول نشر الكتب التى توضح طبيعة الإسلام وأنه لا علاقة له بالإرهاب، إلا أنه يشير إلى وجود دور نشر أخرى ومواقع على الإنترنت تحاول نشر أفكار «الإسلاموفوبيا» لكن داره تحاول الابتعاد عن مثل هذا النوع، «حتى إن الدارسين الذين تحولوا لهذا المجال لا ننشر أعمالهم». وعن تأخر الدار عن العمل فى العالم العربى حتى الآن، يوضح إليتش أن «أسعار الكتب فى أوروبا أعلى والناس على استعداد لدفع الأموال عليها أكثر من هنا، ومن الصعب بيع كتبنا هنا، لذلك نبحث عن طريقة عمل أفضل لدخول العالم العربى، فعندما تشترى سيارة قد تكون فيات أو مرسيدس ونحن نحب أن نكون المرسيدس». كما يشير إليتش إلى تدنى معدلات القراءة فى العالم العربى، وهو ما قد يمثل عائقا أمام دخول الدار للمنطقة، قائلا: «عدد قليل فى العالم العربى يحب القراءة كما أن لديهم أموال أقل من الأوروبيين لإنفاقها على الكتب، ففى مدينة لايدن، التى أعيش بها يصل عدد السكان إلى ال100 ألف نسمة فقط لكن هناك 40 مكتبة، فمعدل القراءة فى هولندا من الأعلى فى العالم». وأخيرا يؤكد إليتش أن تحول الشركة من عائلية إلى مساهمة لم يؤثر بأى شكل على سياسة دار النشر، التى لا يتجاوز عدد موظفيها 100 موظف، وهو ما وصفه برقم ضئيل مقارنة بدور نشر أخرى، إلا أنه يرى أنه جيد فى ظل أنهم جميعا مهتمون بهذا النوع المتخصص جدا من النشر، كما أن الإدارة حريصة على أن يكون لدى المساهمين نفس الاهتمام ولا ينظرون إلى العائد المادى فقط، موضحا أن أرباح الشركة تصل إلى مليونى يورو سنويا «وهو مبلغ كافٍ للاستمرار والاستثمارات المطلوبة للتطوير».