«الشباب خائفون من اختفاء مزاياهم الاجتماعية»، «الخروج إلى المعاش فى سن الستين مسألة عدالة»، «يجب أن نحافظ على مكتسباتنا»، تلك كانت عينة من عبارات الاحتجاج التى نقلتها الصحف ووكالات الأنباء العالمية خلال الأسابيع على التشريع الفرنسى الجديد الذى يقضى برفع سن التقاعد من 60 سنة إلى 62، وهى الاحتجاجات التى اتخذت مسارا تصاعديا منذ الإعلان عن القانون، والتى لم تقتصر على التظاهرات الضخمة، بل امتدت أيضا إلى الإضرابات، حيث أعلن عمال تكرير النفط عن الإضراب عن العمل وتم فرض حصار على مستودعات الوقود، مما دفع الرئيس الفرنسى، نيكولا ساركوزى، إلى الاستعانة بالشرطة لفك هذا الحصار. كما عطل عمال المطارات بعض الرحلات الجوية، فيما نجحت الحكومة فى الحصول على موافقة الجمعية الوطنية «مجلس النواب» فى فرنسا بصفة نهائية يوم الأربعاء الماضى على القانون، وهى الموافقة التى كانت آخر عقبة تشريعية أمام اعتماد المشروع قانونا. وتبرر الحكومة الفرنسية هذا التوجه بتسبب النظام الحالى للمعاشات فى تفاقم عجز نظام التأمينات الاجتماعية، (الفارق بين المستحقات التأمينية «المبالغ التى تدفعها الحكومة سنويا لأصحاب المعاشات» من ناحية، والاشتراكات التأمينية «التى تحصلها الحكومة» من الناحية الأخرى)، مما يهدد موازنة الدولة، فى ظل ارتفاع عدد الوظائف فى البلاد. إلا أن هذا التشريع الجديد اكتسب بعدا سياسيا، حيث رآه البعض فى فرنسا على أنه امتداد لسياسات ساركوزى اليمينية التى تنتقص من حقوق العاملين فى حياة «الرفاه»، وأنها تسير على خطى دول غربية أخرى تتبنى تلك السياسات، مثل انجلترا التى يصل سن المعاش فيها للرجال إلى 65 سنة، مخالفة للسياسات ذات الطابع الاشتراكى التى تتبعها فرنسا منذ عقود والتى جعلت المواطن الفرنسى يحظى بإجازات صيفية لمدد أطول، ويتمتع بأوقات أكبر للغذاء والنوم مقارنة بالعديد من الدول الغربية. وكان المجتمع المصرى قد شهد منذ بضعة أشهر جدلا مماثلا إبان مناقشة قانون التأمينات الاجتماعية الجديد خلال الدورة البرلمانية السابقة، والذى رفع سن المعاش إلى 65 سنة، فى الوقت الذى كان يفخر فيه وزير المالية المصرى، يوسف بطرس غالى، بسبق مصر للعالم المتقدم فى إصلاح قطاع التأمينات. وخلال دفاعها عن القانون الجديد، استندت الحكومة المصرية إلى نفس حجة نظيرتها الفرنسية، مشيرة إلى أن عجز نظام التأمينات من المتوقع أن يصل إلى 22 مليار جنيه خلال السنوات الأربع المقبلة، مما يهدد استدامة النظام. من جانبه، يرى محمد معيط، مستشار وزير المالية لشئون التأمينات الاجتماعية، أنه «لا يصح مقارنة الوضع فى فرنسا بمصر، فبالرغم من التشابه الذى يبدو للوهلة الأولى فى النظامين، فإن هناك اختلافا جوهريا». فتبعا للنظام الفرنسى الحالى، إذا كان عمر المواطن 59 سنة و11 شهرا و29 يوما وسدد اشتراكاته التأمينية لمدة أربعين سنة، وطلب أن يأخذ معاشه، فإن الحكومة الفرنسية ترفض، فهى تشترط أن يبلغ الفرد ستين عاما حتى يتمكن من أخذ معاشه، وحتى فى هذه الحالة سيأخذه بشكل جزئى، فليس من حقه التمتع بمعاشه كاملا إلا عند سن 65 سنة. وفى القانون الجديد، رفعت الحكومة الفرنسية السن المستحق أخذ المعاش عنده بشكل جزئى إلى 62 سنة، بدلا من 60، وبشكل كامل عند 67 سنة، بدلا من 65، وفى المقابل فى مصر، يستطيع الشخص أن يأخذ معاشه كاملا عند سن ال38 عاما، إذ أراد الخروج من الخدمة فى وقت مبكر، تبعا لمعيط. حتى بالنسبة لعدد سنوات الاشتراكات التأمينية التى تشترطها فرنسا ومصر لاستحقاق المعاش فإنها مختلفة، فبينما تصل فى فرنسا إلى 40 عاما، فإنها تبلغ 36 عاما فقط فى مصر». جميع الدراسات تؤكد أن مستوى حياة الناس فى تحسن مطرد، وقد وجدت حكومات العالم المختلفة أن أفضل وسيلة لاستيعاب هذا التحسن هو رفع سن المعاش. «لا شك أن ما نشهده اليوم هو مؤشر على أفول دولة الرفاهة فى أوروبا، أما مصر فمن الصعب ان نقول إنها دولة رفاهة أصلا حتى نزعم أنها تتراجع» يقول مجدى صبحى، الخبير بمركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، معتبراُ أن تفاقم عجز الموازنات سواء فى الدول الغربية أو الأسواق الناشئة، مثل مصر، السبب الرئيسى فى تراجع الحكومات عن الالتزام بخدماتها الاجتماعية، «وهو ما يدفع ثمنه الفقراء». وارتبط مصطلح «دولة الرفاهة» بالمفكر البريطانى «كينز» وهو المصطلح الذى شاع فى الغرب بعد الحرب العالمية الثانية من خلال سياسات اجتماعية تستهدف الطبقات المتوسطة والفقيرة، وتبنته الحكومة فى مصر فى حقبة الخمسينيات والستينيات قبل الدخول فى مرحلة الانفتاح الاقتصادى. ويشير شريف دلاور، استاذ الادارة بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا، إلى أن اعتراض الفرنسيين على القانون الجديد ليس فقط بسبب رغبتهم فى التمتع بمدة أطول من المعاش، ولكن لتفاوت الحالة الصحية عند الكبر فى السن بين مهنة وأخرى «فالعمال فى مجالات مثل المناجم اعترضوا لأنهم عند سن ال52 تكون حالتهم الصحية قد بدأت فى التردى فكيف يستمرون فى العمل لما بعد الستين»، مشيرا إلى أنه فى مصر ايضا ونتيجة للتلوث المرتفع فى المدن وظروف العمل السيئة فى الكثير من المهن تصعب استمرار العامل حتى سن 65. ويدفع المؤيدون لرفع سن المعاش أن ارتفاع توقعات الحياة، نتيجة لتقدم الطب والخدمات الصحية، يبرر مد سنوات العمل، وهو ما عبر عنه المؤيدون للقانون الفرنسى بعبارة ترددت فى الصحف الأيام الماضية «مادمت تعيش أكثر فيجب أن تعمل أكثر». إلا أن صبحى يرى أن ارتفاع الاعمار ليس مبررا للاتجاه لرفع سن المعاش بهذه الحدة سواء فى مصر او فرنسا « فارتفاع الاعمار لم يحدث فجأة، وبالتالى كان علينا فى مصر ان نرفع سن المعاش بشكل متدرج، وأن يكون ذلك ضمن حزمة من السياسات التى توزع اعباء الدولة على مختلف الطبقات الاجتماعية مثل وضع حد ادنى قانونى للاجور ملائم لمعدلات التضخم ورفع نسبة الضرائب على الفئات الاعلى دخلا بدلا من توحيدها على مختلف الفئات حاليا عند 20%». وبينما أثبتت استطلاعات رأى فرنسية أن أكثر من 70% من الفرنسيين يرفضون القانون الجديد، يشكك البعض هناك فى مدى تعبيرها عن الرأى العام الفرنسى، بينما فى مصر تم تمرير القانون دون أن تكون هناك استطلاعات رأى مماثلة، وبرر بركات ذلك بالضغوط التى يتعرض لها الناشطون فى هذه المجالات. ويرى خبراء أن عدم وجود اعتراضات شعبية فى مصر مماثلة فى قوتها للذى حدث فى فرنسا لا يرجع إلى اقتناع الرأى العام برفع سن المعاش، «الناس فى مصر مشغولون بأزمة البطالة، فالشباب لن ينشغل تفكيرهم بسن المعاش طالما انهم لا يجدون فرص العمل أصلا» كما يقول صبحى.