من الصعب المرور على مصطفى وزميليه دون الانتباه إلى أدائهما فى عرض منتجاتهما على الزبائن، يقف مصطفى فوق سيارة ربع نقل أمام مجموعة من الدكاكين التى أقامتها المحافظة فى سوق المنيرة بحى إمبابة. يعرض ملابس الأطفال ضاربا على الدف الكبير مناديا بعشرة وبس، فيرد عليه زميلاه موجهان نداءهما إلى المارة تعالى. يكرر مصطفى النداء الذى يتوقف كل بضع دقائق، ثم يعود النداء من جديد: «بعشرة وبس.. تعالى»، حتى يصمت الجميع وتبدأ صفقات الزبائن وتلقى الأسئلة والفصال فى السعر.. مصطفى الذى تحدث باختصار نيابة عن زميليه ينتمى إلى الجيل الثانى من أسرة سوهاجية هاجرت إلى إمبابة قبل أكثر من عشرين سنة، حين كان طفلا صغيرا، يغير النداء «هدوم العيل.. تعالى»، «البس جديد.. تعالى». ويجذب النداء بعض الأطفال الذين وقفوا يتابعون الأداء الأسبوعى الذى يقدمه تجار السوق، إذ لا يظهر مصطفى وزميلاه فى هذه المساحة سوى أيام الجمعة، أما الدف الكبير الذى يضرب عليه بيده فله مهام أخرى تظهر فى الاستاد أثناء مباريات المنتخب المصرى والنادى الأهلى. لوقت طويل كانت نداءات الباعة مادة خصبة استمد منها كبار الموسيقيين أفكارا يسجلونها فى أعمالهم، أحدهم كان الملحن الراحل سيد مكاوى الذى أعد أعمالا غنائية كان إحداها تحت عنوان «البياعين»... سجل فيه أكثر من 30 نداء ملحنا فى عمل موسيقى كامل، وبعد أعوام من اختفاء هذا العمل، عاد مرة أخرى إلى الجمهور عبر أحد منتديات الانترنت. مثل هذه الأعمال التى اقترنت بنداءات الباعة انحسرت بشدة لعدة عوامل، كما يرى الدكتور إبراهيم عبد الحافظ الأستاذ المساعد بالمعهد العالى للفنون الشعبية: كان هناك توجه شعبى فى الماضى نحو طبقات الحرفيين والبسطاء ظهر فى أعمال الموسيقيين أمثال سيد درويش وسيد مكاوى، لكن الأمر لم يكن يستند فقط إلى اهتمام هؤلاء الموسيقيين بهذه النداءات بل أيضا إلى اختلاف نوعية النداء وجاذبيته، حين كان البائع يغنى جملا موسيقية أقرب للموال.. لقد اختلف الحال ولم يعد منطقيا أن نقارن بين بائع يحمل بضاعته على عربة كارو أو حمار ويتجول حرا دون قلق، وبائع اليوم الذى يعيش الصخب اليومى والزحام.. لابد أن يكون النداء متماشيا مع المناخ العام. فى مؤتمر الموسيقى العربية الأول بالقاهرة عام 1932 الذى كان يعد حدثا فى تاريخ الموسيقى العربية كان الجميع يهدف آنذاك إلى وضع نظم لتدوين الموسيقى الشرقية، وتم تداول قضايا كبيرة منها تسجيل المقامات العربية حسب القواعد العالمية، لكن المفاجأة أن نداءات الباعة الجائلين ظهرت أثناء المناقشات للاستدلال بها على استخدام الشارع للمقامات الشرقية. استمر وجود نداءات الباعة الجائلين فى الحياة الموسيقية بعدها لعقود، ما دفع عددا من المغنيين الشعبيين لتداول جمل تنادى على فواكه بعينها مثل يا خوخ خانونا الحبايب لشفيق جلال، وعلى بياعين العنب لمحمد رشدى (وهى مأخوذة عن الفلكلور). أما اليوم فتكفى زيارة إلى أسواق من نمط سوق المنيرة ذات الطابع العشوائى كى يتأكد المار أنه لم يعد هناك مكان لجمل لحنية بقدر ما هناك عبارات بها سجع وقافية واحدة.. وذلك فى أفضل الأحوال. بدا هذا واضحا لدى صاحب عربة الروبابيكيا حين حاول تقليد الأداء الصاخب الذى يمارسه مصطفى وأصدقاؤه على أطراف السوق، لكنه لم يواصل. وعلى عكس الجميع يمثل مصطفى وزميلاه حالة فريدة من الأداء قد يلاحظها المار بين أماكن أخرى متفرقة مثل أسواق العتبة، وليلا فى شارع طلعت حرب فى وسط القاهرة، لكن الغالبية اختارت نداءات مقتضبة مثلما يفعل باعة الخضار والفواكه. البحث عن جمل لحنية لدى الباعة الجائلين لن يسفر عن الكثير، الغالبية ذات مزاج واقعى يتعامل مع الزبائن كهدف صعب الوصول إليه... البديل هو استخدام كل وسائل لفت الانتباه، هذا ما يؤكده الدكتور إبراهيم عبدالحافظ الذى أشرف على أبحاث تصدى بعضها إلى جمع نداءات الباعة الجائلين، مضيفا: انظر إلى ما يقوم به البائع فى الأتوبيس حين يصعد لافتا انتباه الزبائن بعبارات ذات قافية واحدة وحين يقلل السعر تدريجيا أثناء ندائه. يعبر هذا المثال عن التطور النهائى فى نداءات الباعة، يصعد البائع قائلا: سعد وسعيد ومسعد واللى يصلى على النبى يسعد، مؤكدا أن هذه البضاعة فى المحال تساوى ثلاثة جنيهات، لن يبيعها بجنيهين ونصف الجنيه، ولا جنيهين وربع، ولا جنيه ونصف الجنيه.. سيبيعها بجنيه. أما فى سوق من نوعية سوق المنيرة حيث زحام باعة الهواتف المحمولة المستخدمة وباعة الطيور، لا مكان لموال أو صوت عذب مثلما كان الحال قبل عقود طويلة.. لا تظهر الموسيقى اليوم فى نداءات الباعة سوى لدى باعة الربابة المتجولين فى القاهرة، لا يستخدمون أصواتهم، بل استعاضوا عن ذلك بالربابة نفسها، التى لا يزيد ثمنها على الجنيهين. يكشف أحدهم أثناء حديثه أنها ليست مهنة يمتهنها، بل نشاط يمارسه فى أوقات التعطل بين عمل وآخر، إذ يبيع ما يصنعه أخوه الأكبر الذى يعمل فى تصنيع أقفاص الفاكهة. يبدأ عازفا بمقدمة مسلسل العار الذى عرض فى رمضان الماضى، ثم يعرض مهاراته فى جمل موسيقية أخرى من أغانى مثل البت بيضا للريس متقال، عدا هؤلاء فتبدو نداءات العامة جافة وزاعقة. حسبما يقول الدكتور إبراهيم عبدالحافظ فإن دراسة مثل هذه النداءات قد تعطى ملمحا عن التطورات التى أصابت المجتمع المصرى: تحليل مضمون هذه النداءات بعد البحث فى عدة ميادين لجمع المادة من الأسواق الشعبية ونداءات أصحاب العربات والباعة المتجولين فى الشوارع والمواصلات العامة، يعطى لنا ملامح عامة لهذا التطور، فالاعتماد على الفهلوة لجذب الانتباه أصبحت أمرا ملحا فى نداءات الباعة وليس جمال الصوت، كما أن الزحام قد فرض حدة فى التنافسية ومزايدة على التجار الآخرين مثل استخدام الميكروفونات العالية والزعيق بدلا من النداء ومحاولة جذب الانتباه بحيل كثيرة.