فى كل ليلة تمر عليك بالقاهرة تقابل أشخاصا يحملون أكياسا بها قطعة ملابس أو زوج أحذية، الكل يبحث عن الأناقة، بينما الأناقة تتجول بين أحياء تجارية مختلفة، تحظى بشهرة واسعة ثم يخبو بريقها بعد سنوات من التوهج، بحسب ما يطرأ على المدينة من تغيرات. كانت وسط البلد هى الاقتراح الذى سمعته مى من أصدقائها عندما أخبرتهم برغبتها فى شراء ملابس شتوية، الشابة التى تعيش عامها الأول فى القاهرة للدراسة بالجامعة قصدت شارع طلعت حرب بحثا عن ملابس «شيك» تظهر بها وسط زميلاتها الأنيقات، غير متفاجئة بالأسعار المرتفعة مقارنة بما كانت تشتريه فى مدينتها الأصلية.. فقد أكدت لها الصديقات أن الأسعار فى محال وسط البلد أقل من مثيلاتها فى الأحياء الأخرى. عرفت وسط البلد منذ الأربعينيات كمركز لتسوق أبناء الطبقة الراقية من ملابس وغيره، باعتبارها مقر فروع محال أجنبية شهيرة مثل شيكوريل وعدس وبنزايون وجاتينيو وهانو وغيرها، وبعد تأميم هذه المحال فى الخمسينيات بدأت أنظار التجار تتجه إلى الفنانين وكبار الصحفيين الذين اعتادوا ارتياد المنطقة بمقاهيها الشهيرة، ودخل فى الكادر السائح الخليجى الذى اعتاد السكن فى وسط البلد حتى منتصف السبعينيات، قبل انتقاله إلى الزمالك والمهندسين ومدينة نصر. لعبت الطبيعة السكانية لوسط البلد دورا مهما فى تحديد موقعها على خارطة بيع الأناقة، إذ سكنها فى سبعينيات القرن المنصرم بعض الفنانات والسائحين العرب، ثم هجرها الجميع تدريجيا من أوائل التسعينيات ليحل محلهم القادمون من محافظات مصر للعمل أو الدراسة فى القاهرة، والمشروعات التجارية والفنادق الصغيرة للسائحين. وهم جمهور يحتاج إلى البضاعة الثمينة المظهر الرخيصة السعر، وهو ما يجدونه عند بائعى «الاستاندات»، لكن مى لا تفضل الشراء من الشارع، وتبحث كغيرها من مختلف الطبقات عن أناقة على قدر ميزانيتها، ما جعل كل محل فى شوارع وسط البلد يرتدى رداء يتفق مع شريحة الزبائن المترددين عليه، مثل محل «بلانش» فى بداية شارع طلعت حرب، الذى تلفت فخامته المار.. وهو ما يفسره عمرو عبدالرحمن مدير المحل قائلا: «قصدنا إعداد المحل بمظهر وديكور معين يعطى انطباعا بالفخامة، لأننا نبيع بضاعة يقبل عليها زبائن من طبقة اجتماعية معينة»، مشيرا إلى كون وسط البلد مقصدا لسكان مختلف الأحياء وحتى المحافظات، وهو ما يفرض على المحل مزيدا من المرونة فى الذوق والأسعار، لكن عمرو يصر على استثناء «الزبون الشعبى» من عملائه، لأن ببساطة «جمهور العتبة والموسكى لن يجدوا بمحل فى طلعت حرب ما يشتريه». لكن ثمة مساحة فى المنطقة استطاعت خدمة مختلف الطبقات، هى مول طلعت حرب الذى يضم محالا تبيع الماركات العالمية فى الملابس والنظارات ويقع فى منطقة محاطة بالموظفين من أبناء الطبقة المتوسطة ودون المتوسطة، فيستطيع المحل فى المول مغازلتهم ببضاعة رخيصة أو بكلمة «أوكازيون» السحرية، إذ اختارت مى ثلاث حقائب وحذاءين دون أن تدفع فيها الكثير! ومثلها عدد كبير من الشابات الباحثات عن ملابس وإكسسوارات قيّمة يظهرن بها فى الجامعة أو العمل ويخرجن منه راضيات عن دفع مبالغ لا تزيد كثيرا على أسعار سوق العتبة، مع أنها من أحد محال «مول» فى وسط البلد. وما زال مول طلعت حرب جاذبا للمراهقين من أبناء الطبقة محدودة الدخل الذى يدخر الواحد منهم لشراء بنطلون «جينز تركى» من المحال الكثيرة فى المول، مراهنا على استخدامه لفترة أطول من التى ستمر على «بنطلون الشارع». شارع الشواربى.. مركز الاستيراد «لمن سأشترى؟!» تتساءل مدام ناريمان فى حسرة اختلطت بشىء من العصبية، وتنظر السيدة الأنيقة إلى أرفف البوتيك الذى تملكه فى شارع الشواربى واعتادت جلب أزياء وعطور واكسسوارات مستوردة وبيعها فيه إلى زبائن ينتمى أغلبهم إلى الأثرياء والشخصيات العامة. لكن السيدة الأنيقة توقفت عن ذلك منذ فترة بعد تغير أحوال الشارع الذى لاتزال قدماك تقودك إليه كلما توجهت إلى وسط البلد بحثا عن الأناقة، لكنك اليوم ستجده كشخص أخفى وجهه بكلتا يديه! فقد تم إغلاقه من ناحيتى شارع عبد الخالق ثروت وشارع قصر النيل منذ عام 1994، ليتحول مركز الموضة المستوردة سابقا إلى ما يشبه الممر. «كل يوم مشاجرات سوقية.. هل ستأتينى سيدة محترمة وسط هذه الفوضى؟!» تتساءل مدام ناريمان فى ضيق. وبنفس لهجتها يتحدث الحاج جمعة درويش مدير محل للأحذية من أقدم محال الشارع: «الشواربى أصبح اليوم مثل سوق العتبة، كله استاندات وبائعون على الرصيف» ويبدو الرجل آسفا على حال الشواربى الذى «كان الزبون يأتى له مخصوص، أما اليوم فالزبون يخطف من الشارع الرئيسى»، قاصدا أسلوب اجتذاب الزبائن من الشوارع الرئيسية إلى المحال أو ما يعرف فى مجال التجارة بمصطلح «التحذية» بمعنى أن يعين التاجر شبابا يقودون الزبون أو «يحاذون عليه» حتى يصل إلى المحل! بدأت شهرة شارع الشواربى خلال فترة «الانفتاح الاقتصادى»، شهرة بدأت بالملابس المستوردة واتسعت لتشمل الاكسسوارات والعطور وحتى الأجهزة الصغيرة الأجنبية للشعر والتجميل والمطبخ... ووجدت هذه البضاعة هوى لدى المستهلك المصرى الذى كان متعطشا لكل ما هو مستورد بعد سنوات قضاها فى العمل خارج البلاد تعود خلالها على نمط استهلاكى معين أو قضاها داخل مصر يشترى «الصناعة الوطنية»، بل إن بعض المحال فى الشواربى كانت تضع فى الفاترينة زجاجات «كوكاكولا» التى تمت مقاطعتها فى الفترة الناصرية! لكن التغير الذى أصابه اليوم بدأ فى منتصف التسعينيات تقريبا كما يقول الحاج جمعة: «بدأت وقتها موجة بيع محال الشواربى، والسبب أن أصحابها الذين جعلوا للشارع سمعته توفوا أو تقدم بهم العمر بينما أبناؤهم بعيدون عن المجال، فاستأجر تجار العتبة المحال أو اشتروها. هؤلاء التجار جاءوا بالبضاعة من المصادر التى اعتادوا عليها فى محالهم بالعتبة، فانهارت سمعة الشواربى». الشارع أصبح بلا طابع محدد، فهو يضم الآن بضاعة محلية وأجنبية الصنع بأسعار شديدة الغلاء أو شديدة الرخص. تجد أحد محال الأحذية يرفع لافتة «تشكيلة حريمى ب15 جنيها»، وهو موجود بالشواربى منذ عام 1997 ويعرض بضاعة محلية بأسعار تنافسية، لأن صاحب المحل يملك مصانع للأحذية، فأعلى زوج لديه سعره 200 جنيه. وفى الجهة المقابلة على بعد أمتار قليلة ترتفع واجهات Carina وBTM كأنها تتحدى مكانة الشارع الزائلة فى احتواء المستورد بما تحويه من بضاعة غير مشكوك فى جودتها. يقول الأستاذ ميشيل سمير مدير الدعاية والإعلان بشركة BTM: «يبدو أن الشواربى فرض سلوكا معينا على سكانه الجدد من محال الطبقة الثرية التى تقدم منتجا محليا بجودة عالمية، لأننا ندرك أن الشواربى ووسط البلد عموما منطقة ترتادها مختلف الطبقات، خصصنا فى فرع الشواربى قسما لملابس الستوك، حتى تستطيع فئات جديدة قريبة ممن نتعامل معها دخول المحل والتمتع بجودة منتجاته». أشيك ناس فى روكسى فى فيلم «أنا لا أكذب ولكنى أتجمل» قالت شخصية (إبراهيم) التى لعبها النجم أحمد زكى إنه اشترى القميص الذى يرتديه من «بوتيك فى روكسى» محاولا إيهام أصدقائه بانتمائه إلى طبقة اجتماعية عليا. وبعده بنحو عشرين سنة قدم المخرج عادل أديب فيلما عن شاب فقير يتطلع إلى النجومية التى تفرض عليه أناقة بدرجة تجعله «أشيك واد فى روكسى» كما كان اسم الفيلم! وعرفت روكسى كإحدى عواصم الموضة القاهرية منذ أواخر السبعينيات، إذ بدأت الكثافة السكانية ترتفع فى منطقة مصر الجديدة، التى لم تكن بعيدة عن السائحين العرب، لما تضمنه من دور سينما بها وشقق هادئة، ففتحت عدة محال ملابس وأحذية، مازال بعضها قائما حتى الآن. ورواج هذه البوتيكات ببضاعتها الفاخرة كان حافزا لافتتاح مزيد من المحال المختصة ببيع الموضة فى الملابس والأحذية والشنط والاكسسوارات، وهو ما خلق جو منافسة أدى إلى تراجع الأسعار فى سبيل جذب الزبون، الذى يجد اليوم محالا تقدم له ملابس بسعر يبدأ من 3 جنيهات للقطعة، مثل الذى يشرف عليه مصطفى الذى يؤكد: «روكسى ترتادها كل الطبقات من أنحاء القاهرة، بل من أنحاء مصر». يقف مصطفى محاطا بكثير من الملابس مختلفة المقاسات التى تحمل أسعارا موحدة موضحا أنها بواقى تصدير وماركات مشهورة من موديلات العام الماضى. السياسة ذاتها يطبقها محل آخر للأحذية، له فرع فى مركز «سيتى ستارز» التجارى. يقول الأستاذ سمير مدير فرع روكسى إن الناس من المستويات المتوسطة تقصد روكسى لشراء أحذية حديثة بأسعار معقولة». ويقارن الأستاذ سمير بين ما يعرضه فرع «سيتى ستارز» والمعروض فى فرع روكسى: «كلاهما بضاعة جيدة تليق باسمنا، لكننا فى روكسى نضع ما يمكن تسعيره بأرقام يقدر عليها متوسط الحال، الذى يأتى مستعدا للمساومة فى ثمن ما يشتريه، بعكس سيتى ستارز الذى يبحث فيه عن الماركة الأصلية». ولم تبق روكسى بعيدة عن الباعة المتجولين وأصحاب «الفرشة» و«الاستاندات»، إذ ظهروا بشكل كبير ومكثف بعد عام 2000 وظلت الشرطة تطاردهم لتعيد للمكان شكله الأصلى. مع ذلك احتفظت روكسى بسمعتها كحى للموضة، وظلت شوارع ابراهيم اللقانى والمأمون والأهرام وبطرس غالى مقصدا للراغبين فى الكساء، وارتفعت أسهم هذا الأخير بعد ظهور أكثر من «سنتر» به، أولهم كان «سنتر 4» الذى اجتذب كثيرا من رواد المنطقة ممن انبهروا أوائل التسعينيات بفكرة التجمع التجارى لعدة محال. أما شهرة المكان ببيع الملابس المستوردة فلا تجد موقعها من الإعراب الآن كما تقول مدام راوية مديرة محال للملابس الحريمى: «هذا المحل مفتوح منذ أكثر من 15 عاما، كنا فى البداية نستورد ونبيع خصوصا للسائحين العرب الذين تراجع عددهم بعد انتقال معظمهم إلى المهندسين ومدينة نصر». والمستفيد بهجرة السائحين العرب خارج مصر الجديدة وقبلها خارج وسط البلد، هى منطقة المهندسين، التى تحول شارع شهاب بها إلى مركزا لتجارة الملابس الجاهزة من خلال محال تستهدف هذا السائح، وأخرى نزلت بأسعارها فى إطار المنافسة. وتشير السيدة إلى البضاعة التى تملأ محلها المتسع: «كل هذه بضاعة مصرية.. كل روكسى صارت مصرية!» إلا أن بعض الشائعات التى تجد نصيبا من الحقيقة تقول إن بعض أصحاب المحال فى هذا الحى التجارى يجلبون البضائع الصينية ويستبدلون «التيكيت» بآخر مصرى، مبتعدين عن مساءلة الضرائب ومستفيدين من السعر الصينى الزهيد، لينعكس الوضع عما كان عليه فى الثمانينيات. مدينة نصر.. مدينة الثمانية مولات «كل ما احتاج حاجة بانزل عباس!» تقول سارة ذلك بعد أن أنهت جولتها للتسوق من مول «سيتى سنتر» فى شارع عباس العقاد بمدينة نصر الشهيرة بكثرة المولات والمراكز التجارية، بل إن هذا الحى كان مهد ولادة سلسلة من المولات، بعد الظهور الاول للفكرة فى مصر عام 1989 بافتتاح «اليمامة سنتر» فى الزمالك. وخلال التسعينيات كانت مدينة نصر الواسعة قد ازدحمت بسكانها العائدين من الخارج، وبثمانية مولات وجدت جمهورها بين هؤلاء المعتادين على اجتماع خدمات متعددة فى مبنى واحد، وهو ما يعد انعاكسا لتأثيرات خليجية أفرزتها الاستثمارات العربية فى مصر والمصريين العائدين من الخليج، المنتشرين أيضا فى مدينة نصر. غير أن هذه الجاذبية للمول تغيرت بعد إنشاء «سيتى ستارز»، كما يقول على مدير توكيل إحدى الماركات الرياضية العالمية: «الزبون الذى يقبل على شراء الماركات العالمية لا يهمه سوى جودة المنتج، وفى سيتى ستارز سيجد كل التوكيلات فى مكان واحد بدلا من التردد على أكثر من توكيل فى هذا المول أو ذاك» لكنه فى الوقت ذاته لا يرى أن مكانة المولات تهتز فهى ستظل دائما لها جمهورها لأن «المول مكان خدمى، تدخله لتجلس فى كافيه أو تحضر فيلما، وهناك أيضا من لا يقدر على شراء الماركات الأصلية، فيشترى الأقل سعرا». يؤكد زميله شلبى الفكرة نفسها مضيفا: «الزحام فى مدينة نصر يجعل فكرة التسوق بالسيارة من محل لآخر أمرا صعبا، أما المول فيوفر وقت قطع الطريق وسط المرور المزدحم وركن السيارة». البالة للجميع