خلف جامع الحسين وبين عدد من أضرحة الأولياء تنتشر الحوارى وتتفرع الأزقة الضيقة والمنعطفات الداخلية التى تحوى كمّا هائلا من الغرف السكنية والشقق الصغيرة ذات الحوائط المتهالكة.. ذلك هو حى الجمالية الذى يستأثر بالجزء الأكبر من القاهرة التاريخية، ولكنه لايزال على قيد الحياة ليقدر على ساكنيه الحياة وسط رائحة الماضى المنتشرة وسط ركام المنازل وغرف الأوقاف الضيقة. على باب درب الطبلاوى تبدأ قصة الحى الشعبى من مبنى «المسافر خانة» لوكالة «بازرعة» إلى المنازل القديمة التى يعود تاريخها إلى عشرات السنين ليرى أهلها أن لعنة التراث أصابتها فظلت كما هى دون إحياء أو تطوير أو تصيبها لعنة «الوقف» لتكون تحت رحمة وزارة الأوقاف التى لا تنظر إلى أحوال سكانيها. ويبدأ درب الطبلاوى من خلف مسجد الحسين ويمتد ليشمل عددا من المساكن الضيقة سواء كانت قديمة أو حديثة، فالاثنان متلاصقان.. يمتلأ الشارع بعدد من الخيام المكتظة وعدد من الرجال والنساء والصبية.. يبدو معظمهم من البدو.. يخيل للزائر وكأن هناك احتلالا بدويا من الأقاليم على هذا المكان الضيق الذى لا يتحمل أكثر من سكانه الأصليين، وأمام مبنى صغير مرفوعة عليه لافتة تحمل اسم «الطريقة الأحمدية.. سيدى مرزوق الأحمدى» يكتظ الجالسون منتظرين يوم الثلاثاء، الحادى والعشرين من شهر أبريل لإقامة شعائر مولد الحسين.. «دى عادة، ربنا ما يقطع لحد عادة» يقولها شيخ كبير وهو يحاول أن ينظم الأوضاع ويشرف على الخيام الملاصقة.. مؤكدا أن حى الجمالية هو مأوى «الموالدية» والناس هنا غلابة محدش بيقول لنا حاجة كلها أسبوعين وبنسيب المكان، ويضيف الشيخ «إزاى نطلب من أهل البيوت يضيفونا عندهم والأودة بتتقفل عليهم بالعافية كفاية إنهم سايبين لنا الشارع». وعلى باب سرداب طويل للعقار رقم 25 تبدأ المناقشة الطويلة بين الحاج عبده ومرزوق بيه «الوريث الشرعى للمنزل» ليتفاوض الاثنان على مصير سكان أكثر من 11 غرفة بالدور الأرضى للمنزل إذا ما أراد الوريث رد المنزل من الأوقاف بعد أن قام والده بوقفه لصالح عدد من السكان الغلابة فى رأيه لكنهم الآن لم يعد لهم وجود، وأصبح البيت محتلا من أبنائهم نظير 175 قرشا كل شهر، لا يحاول مرزوق التوجه إليهم واسترداد قيمة الإيجار الزهيدة منهم. «مرزوق بيه» كما يطلق عليه السكان.. موظف غلبان فى مديرية الصحة.. يقول: «كده كده البيت ها يتطور.. وكمان موقوف.. بس سعره دلوقتى بالملايين.. المتر وصل لعشرة آلاف جنيه.. يبقى من حقى أبيعه وأصلح حالى ولا لأ؟ ومصير السكان على الحكومة» ولكنه عاد ليفكر قائلا: «هى الأوقاف هاتسيبنى فى حالى.. ويدونى البيت بكل سهولة كده؟». يقول مرزوق وهو يائس من محاولة النقاش مع الحاج عبده: «دى الأوقاف مش بس مالكة البيت ومستفيدة منه، لكن شايلة إيدها من أى مشاكل بالبيت، دخول الميه أنا اللى أتحمله، طلبات الترميم بييجوا يطلبوها منى، يعنى كمان باصرف على السكان مش كفاية بيتى وعيالى». «أسيب البيت يا مرزوق بيه بعد ما خرجت منه 4 عرايس» يقولها الحاج عبده وهو يتذكر أفضال الشقة القديمة المتهالكة التى تحوى غرفتين صغيرتين وحماما وصالة صغيرة استغلتها زوجته لتكون مطبخا، تلك الشقة التى يحسده عليها سكان الغرف المجاورة له، لاحتوائها فقط على حمام مستقل يحمى خصوصيته، كما يقول: «ده كدة رضا.. رغم قلة الحيلة.. لكن الشقة دى خرّجت 4 عرايس واتجوزوا أحسن جوازة». وعلى صوت النقاش وداخل السرداب الطويل للمنزل تأتى أم حامد قائلة: «مرزوق بيه.. والله إحنا كنا مستنيينك.. روحنا للحى واتبهدلنا» وتحكى أم حامد قصة دورة المياة التى يشترك فيها تسع غرف التى تهدمت الأسبوع الماضى بعد أن كانت هناك شروخ بالسقف أدت إلى انهياره ويظل الوضع هكذا لأكثر من أسبوع والسكان يستغيثون بموظفى الحى والأوقاف للحصول على أى مساعدة أو مجرد الموافقة على إنشاء دورة مياه غيرها قائلا: «دى أقل حاجة ممكن نطلبها منهم، مش كفاية أن الأودة هاتقع فوق عيالى.. ولما نشتكى يبقى الرد هانطلّع قرار إزالة وتترمى إنتى وعيالك فى الشارع». وداخل السرداب أمام طبق كبير ملىء بالملابس المبتلة تبدأ حسنية التى تسكن بالغرفة الرابعة بنشر ملابسها بالطريقة البدائية حاملة العصا لتحاول تثبيت الملابس بها على الأحبال التى تعلو السرداب لمسافة تقرب من الثلاثة أمتار، وتقول: «هو ده المكان الوحيد اللى بطوله الشمس» وبحالة من الأسى تقول: «ولادى كلهم تعبانين.. من وجع العضم للكلى.. لا شمس ولا حمامات.. الصبح نقف طوابير على الحمام وكمان وقع فوق راسنا» مستنكرة أن يكون هناك أى محاولة للتطوير أو الاستفادة من هذا التطوير بمسكن ملائم وصحى، مسترجعة ما أكده الآخرون لها بأن الحكومة هاتطلعهم من الغرف وهاتوديهم يسكنوا فى الجبل فى المدن الجديدة. ويتلاصق العقار 26 بالعقار السابق ولكن دون أى تشابه بينهم، فعلى ارتفاع يبلغ أربعة طوابق يكمن ذلك العقار الجديد نسبيا الذى يرجع تاريخ إنشائه إلى تسعينيات القرن الماضى وداخل المدخل الصغير للعقار تتراص ثلاث دراجات «الوسيلة الوحيدة اللى ممكن أدخل بيها لبيتى وأمشى من بين الحوارى الضيقة».. يقولها حسين وهو يستخرج دراجته ليلبى طلبات منزله ناقما على ضيق الأفق والتلاصق الشديد الذى يعيش فيه مؤكدا أنه على الرغم من حداثة عمر العقار الذى يسكنه إلا أنه لا يرى النور بسبب التكدس العمرانى فى المنطقة وسوء تخطيط المبانى وانتشار العشوائية بشكل كبير، مؤكدا أن أى محاولة للتطوير ستأخذ الجميع «عاطل مع باطل» متخوفا أن يكون هناك مساواة بينه وبين ساكنى الغرف فى الأحواش. وتبدأ ملامح التطوير على مدخل وكالة «بازرعة» حيث تتراص الأخشاب من قبل المجلس الأعلى للآثار ويبدأ عمال شركة المقاولات المختصة بالتطوير بالعمل وسط ترقب من المستفيدين من الوكالة من أصحاب الورش والمتاجر، كانت حالته لا رثاء لها.. ذلك الشيخ الهرم التى وقف أمام العمال متسائلا «هاتطوروا إيه فى الوكالة وهيا كلها ورش ومحلات، يعنى هاطلعونا برة؟» قائلا: «أنا أرزوقى وعلى باب الله بعد ما شيلتوا بيتى روحت سكنت فى عرب المعادى وكل يوم جنيه ونص رايح وجنيه ونص جاى وكمان عاوزين تشيلوا أكل عيشى.. يعنى أعيش إزاى؟». ويقول الحاج محمد شكرى وهو يتذكر يوم إزالة منزله المتلاصق بالجامع الأثرى بشارع «التمبكشية» حيث كان الأهالى يترجون الآثار لترميم المنزل لكنها رفضت وقالت إنه لا تختص سوى بالمبانى الأثرية والجوامع فقط ولا علاقة لها بالمنازل المتهالكة، فهى مسؤلية الحى وقرار الحى بالإزالة دون محاولة لتوفيق أوضاع السكان، وعلى أثر هذه الأيام كان مسكنه بالمعادى بعيدا عن محل عمله قائلا: «كمان هايخدوا محل عملنا.. كده حرام». وكالة بازرعة، إحدى وكالات العصر المملوكى، تمتلئ الآن بأصوات ورش الألومنيوم والأخشاب.. يختفى الملاك الأصليون للورش فى مصانعهم الكبيرة وتبقى الورش القديمة لعدد من العمال البسطاء التى تصبح محل عملهم بل وإقامتهم أحيانا أخرى، مينا عيسى.. عامل بورشه النجارة بالوكالة يقول وهو يحمل الأخشاب من الوكالة إلى الشارع الخارجى لتنقلها العربات التى لا تتمكن من الدخول بسبب ضيق المكان: «بنسمع أنه الآثار هاتخد الوكالة كلها بس إحنا هانشتغل فين، بيقولوا هايخلوا كل المحلات تنقلب عطارة وتبيع توابل، لكن شغلنا هايروح فين؟ إحنا بقالنا سنين على كده ومش بنعمل قلق لحد». «خلاص انتهى عصر يحيا الملك ويعيش الملك»، «مش هانفضل نرشح ناس للدايرة ولا نسمع عنهم حاجة» يقولها مجدى السيد عامل، متسائلا عن دور نواب الجمالية فى الوقوف بجوار الأهالى فى ظل هذا التطوير والسيناريوهات التى تتكرر على مسامعهم ومطامع الآثار فى الاستيلاء على منازلهم وورش العمل التى تربوا فيها، وأكلنا منها عيش، والنواب كمان كلوا عيش بعد ماانتخبناهم.. دلوقتى نسيونا؟». حوش عطا.. منعطف آخر من منعطفات الجمالية، لا يختلف كثيرا عن درب الطبلاوى ووكالة بازرعة ولكنه يجمع بين الورش والمساكن على السواء.. منى رمضان.. طالبة دبلوم التجارة.. تقول «نفسى أعيش فى مكان نظيف لكن بحب هنا، ياريت يطوروا المنطقة اللى بنحبها، كل السياح بييجوا يتفرجوا علينا، أكيد شايفينا وحشين لكن لو الحكومة ساعدتنا ونظفت الشوراع هايتفرجوا علينا وهما مبسوطين». فى حين ينفى المهندس محمد شحاتة رئيس جهاز تجديد أحياء القاهرة الفاطمية، أن يكون الجهاز مسئولا فى عمليات التطوير التى يقوم عن المساكن أو العشش الملاصقة للمناطق للآثار، موضحا أن المشروع الذى يقوم به الجهاز فى هذه المنطقة تطوير وترميم سور القاهرة الشمالى من باب النصر حتى شارع بهاء، مضيفا أنه جار الآن بعض أعمال الحفريات بالمنطقة الجنوبية خلف السور بعد الانتهاء من إخلاء المساكن فوق جسم السور تمهيدا للبدء فى أعمال التطوير والعمل على إنهاء كل المعوقات التى تحول دون عمليات التطوير. وقد تم بالفعل الانتهاء من 90% من هذه الأعمال. وأكد شحاتة أن أعمال التطوير تتم بالتعاون مع قطاع الآثار الإسلامية والمجلس الأعلى للآثار وحضور ممثل عنه وقت أعمال الترميم، مضيفا بأن الجهاز يقوم الآن بعمل دراسات لترميم جزء من السور الشرقى للقاهرة.