ترجمتُ كتابين للكاتبة الأمريكية جريس هالسل نشرتهما دار الشروق. الكتاب الأول بعنوان «النبوءة والسياسة»، والكتاب الثانى بعنوان «يد الله». والكتابان يتعلقان بالعقيدة الدينية للمسيحية الصهيونية فى الولاياتالمتحدة وبدورها فى عملية اتخاذ القرار السياسى الأمريكى المتعلق بالشرق الأوسط والذى يستند غالبا أو دائما إلى هذه العقيدة. لم تكن جريس هالسل مجرد كاتبة عادية. كانت تكتب الخطاب السياسى للرئيس الأمريكى الأسبق ليندون جونسون. ولذلك فإنها تعرف معرفة جيدة كيف تتم عملية اتخاذ القرار. ثم إنها هى نفسها وكذلك والدها كانت عضوا بارزا فى الكنيسة المسيحية الصهيونية. وقد قامت بعدة زيارات حج إلى فلسطينالمحتلة وخصوصا إلى المواقع المسيحية المقدسة فى الناصرة وبيت لحم والقدس. وأثناء هذه الزيارات اكتشفت حقائق دينية وإنسانية دفعتها إلى الخروج على كنيستها وتأليف الكتابين. ولقد جمعتنى بها صداقة حميمة منذ أن ترجمت كتابها الأول. ثم تمنّت علىّ ترجمة كتابها الثانى، إلا أنها انتقلت إلى رحمة الله منذ ثلاث سنوات قبل أن أتمكّن من تسديد بقية حقوقها فى نشره. قبل الكتاب الأول الذى صدر فى عام 1986 لم تكن أدبيات الحركة أو الكنيسة المسيحية الصهيونية معروفة فى العالم العربى. ولذلك استقبل كثيرون كتاب «النبوءة والسياسة» باستخفاف. وبدا للقارئ العربى أن أكبر وأقوى دولة فى العالم سياسيا وعسكريا واقتصاديا وعلميا وتقدما وعمرانا، لا يمكن أن يكون عقلها السياسى أسير نبوءات دينية مفبركة. بموجب هذه النبوءات تنتظر الحركة المسيحية الصهيونية العودة الثانية للمسيح. وتعتبر أن لهذه العودة شروطا لا بد من توافرها. أول هذه الشروط قيام «صهيون». ذلك أن المسيح، فى اعتقادها، لن يعود إلا إلى مجتمع يهودى. ومن هذه الشروط أيضا بناء هيكل يهودى فى القدس. ذلك أن المسيح لن يعلن عن ظهوره إلا فى الهيكل. لذلك اعتبرت هذه الحركة قيام إسرائيل فى عام 1948 المؤشر العملى الأول على تحقيق النبوءات التوراتية. ثم اعتبرت احتلال القدس فى عام 1967 المؤشر العملى الثانى. وهى تنتظر المؤشر الثالث: تهديم المسجد الأقصى وبناء الهيكل. وبموجب عقيدة هذه الحركة فإن على المؤمنين بها ليس مجرد انتظار حدوث «الأمر الإلهى»، بل عليهم العمل على تحقيقه. وهذا ما يفسر الدور الأمريكى فى دعم إسرائيل المستمر والمتواصل منذ عام 1948 حتى اليوم. وهو دعم لا يقدم لليهود كرمًا لعيونهم، ولكن توفيرا لشروط العودة الثانية للمسيح. ذلك أن سيناريو العودة يقوم على أساس نبوءات مصنوعة من إشارات فى «سفر حزقيال» تقول بأن «يأجوج ومأجوج» رمز أعداء الله، سوف يهاجمون إسرائيل ويمنعون قيامها لمنع عودة المسيح. وان ذلك سوف يؤدى إلى نشوب معركة مدمرة كبرى فى سهل مجيدو الواقع بين القدس وعسقلان يذهب ضحيتها الملايين من البشر يطلقون عليها اسم «هرمجيدون». وفى هذه المعركة يباد جميع المسلمين وكذلك جميع اليهود، باستثناء 114 ألفا منهم فقط، يتحولون إلى الإيمان بالمسيح، فيرفعهم المسيح العائد إليه فى سماء المعركة مع بقية المؤمنين الإنجيليين، ثم يهبط بهم جميعا إلى الأرض ليحكم العالم مدة ألف عام يسمونها فى أدبياتهم الدينية «الألفية». المهم فى هذه الحركة المسيحية الإنجيلية أنها تضم 70 مليون أمريكى. منهم رؤساء جمهورية سابقين وحكام ولايات، وأعضاء فى الكونجرس وفى السلك الدبلوماسى والسلك العسكرى الأمريكى. وتشرف الحركة على شبكة إعلانية تليفزيونية وصحفية واسعة النطاق، إضافة إلى إدارة عدد من الجامعات والمستشفيات ومراكز الأبحاث والدراسات. ولعل من أبرز شخصيات هذه الحركة الرئيس الأسبق رونالد ريجان. وكان آخر أبرز شخصياتها الرئيس جورج بوش الابن. وهنا بيت القصيد!. ففى كتاب جديد للصحفى الفرنسى جان كلود موريس (المراسل الحربى لصحيفة لوجورنال دو ديمانش الفرنسية) نصوص عن المكالمات الهاتفية بين الرئيس بوش والرئيس الفرنسى السابق جاك شيراك والتى أجراها الرئيس الأمريكى فى محاولة منه لإقناع الرئيس الفرنسى المشاركة فى الحرب المقررة على العراق. ينقل الكاتب عن الرئيس شيراك قوله: «تلقيتُ من الرئيس بوش مكالمة هاتفية فى مطلع عام 2003، فوجئت فيها بالرئيس بوش وهو يطلب منى الموافقة على ضم الجيش الفرنسى للقوات المتحالفة ضد العراق، مبررا ذلك بتدمير آخر أوكار «يأجوج ومأجوج»، مدعيا أنهما مختبئان الآن فى الشرق الأوسط، قرب مدينة بابل القديمة، وأصر على الاشتراك معه فى حملته الحربية، التى وصفها بالحملة الإيمانية المباركة، ومؤازرته فى تنفيذ هذا الواجب الإلهى المقدس، الذى أكدت عليه نبوءات التوراة والإنجيل». أما كيف تصرّف الرئيس الفرنسى السابق أمام محاولة الرئيس بوش، فقد أوضحه كتاب الصحفى الفرنسى بقوله: «لم يصدّق شيراك أذنه عندما اتصل به بوش قبيل الحرب على العراق بأسابيع، ليقنعه بالتراجع عن معارضته الشرسة للحرب، مؤكداّ له مرة أخرى أن هذه الحرب تستهدف القضاء على «يأجوج ومأجوج»، اللذين يعملان على تشكيل جيش إسلامى من المتطرفين فى الشرق الأوسط لتدمير إسرائيل والغرب، وكم كانت دهشة شيراك عظيمة عندما سمع بوش يخبره فى مناسبة أخرى عبر الهاتف ويقول له حرفيا إنه تلقى وحيا من السماء لإعلان الحرب على العراق، لأن يأجوج ومأجوج انبعثا من جديد فى العراق، وهو فى طريقه إلى مطاردتهما، لأنهما ينويان تدمير الغرب المسيحى. وشعر شيراك حينها بالخجل والفزع من هذا التبرير السخيف، ومن هذه السذاجة والصفاقة، لكنه لم يكن يتصور أبدا أن تطرف بوش وميوله الدينية نحو تحقيق نبوءات التوراة على أرض الواقع يقودانه إلى ارتكاب مثل هذه الحماقات التاريخية الكارثية، وازدادت مخاوف شيراك عندما صار بوش يعيد تكرار الإشارة إلى يأجوج ومأجوج فى مؤتمراته الصحفية والسياسية». ويقول الكاتب الفرنسى: «وجد الرئيس جاك شيراك نفسه بحاجة إلى التزود بالمعارف المتوافرة بكل ما تحدثت به التوراة عن يأجوج ومأجوج، وطلب من مستشاريه تزويده بمعلومات أكثر دقة من متخصصين فى التوراة، على ألا يكونوا من الفرنسيين، لتفادى حدوث أى خرق أو تسريب فى المعلومات، فوجد ضالته فى البروفيسور «توماس رومر»، وهو من علماء الفقه اليهودى فى جامعة «لوزان» السويسرية. وقد أوضح له البروفيسور: إن يأجوج ومأجوج وردّ ذكرهما فى «سفر التكوين» فى الفصلين الأكثر غموضا، وفيهما إشارات غيبية تذكر أن يأجوج ومأجوج سيقودان جيوشا جرارة لتدمير إسرائيل ومحوها من الوجود، وعندئذ ستهبّ قوة عظمى لحماية اليهود، فى حرب يريدها الربّ، وتقضى على يأجوج ومأجوج وجيشيهما ليبدأ العالم بعدها حياة جديدة». وفى كتاب لى عنوانه «الدين فى القرار الأمريكى» صدر عن دار النفائس فى بيروت إضاءة على العوامل الدينية المؤثرة فى عملية اتخاذ القرار السياسى الأمريكى من قضايا الشرق الأوسط. فالكاتبة جريس هالسل تذكر فى كتابها «النبوءة والسياسة» الذى اعتمد عليه الكاتب الفرنسى موريس لشرح أدبيات الحركة الصهيونية المسيحية «إنه فى كل مرة يعقد فيها مجلس الأمن القومى اجتماعا لبحث قضية تتعلق بالشرق الأوسط كان يدعى لحضور الاجتماع ممثل عن الحركة المسيحية الصهيونية حتى يأتى القرار متوافقا مع الإيمان بالنبوءات التوراتية». كانت هالسل تتحدث عن فترة حكم رونالد ريجان الذى نقلت عنه إحدى الصحف الأمريكية فى لوس أنجلوس قوله: «أتمنى أن يكرمنى الله بأن أضغط على الزر النووى حتى أساهم فى تحقيق الإرادة الإلهية بوقوع هرمجيدون وعودة المسيح». كان هذا الواقع أقل تطرفا فى عهد جيمى كارتر، أما فى عهد الرئيس جورج بوش الابن، فقد بلغ الحدود القصوى كما تشير إلى ذلك محادثاته مع الرئيس شيراك. ويبدو الآن أن «اتهام» الرئيس الحالى باراك أوباما بأنه يعتنق الإسلام سرا، يعود إلى أنه بعيد فى مسيحيته عن الحركة المسيحية الصهيونية ورافض لأدبياتها.