الأوقاف: تعليمات بعدم وضع اي صندوق تبرع بالمساجد دون علم الوزارة    وظائف معلم مساعد 2024.. تعرف على الكليات ورابط التقديم    سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الإثنين 6 مايو 2024    د.حماد عبدالله يكتب: "الإقتصاد الجزئى " هو سبيلنا للتنمية المستدامة !!    استقرار سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الإثنين 6 مايو 2024    جيش الاحتلال يفرض حظرا للتجوال في مخيم نور شمس بطولكرم    عاجل - انفجار ضخم يهز مخيم نور شمس شمال الضفة الغربية.. ماذا يحدث في فلسطين الآن؟    بعد عملية نوعية للقسام .. نزيف نتنياهو في "نستاريم" هل يعيد حساباته باجتياح رفح؟    إعلان بانجول.. تونس تتحفظ على ما جاء في وثائق مؤتمر قمة التعاون الإسلامي بشأن القضية الفلسطينية    تشكيل غير مناسب.. فاروق جعفر يكشف سبب خسارة الزمالك أمام سموحة    هل استحق الزمالك ركلة جزاء أمام سموحة؟.. جهاد جريشة يجيب    خالد مرتجي يكشف أسباب غيابه عن مراسم تتويج فريق الزمالك للكرة الطائرة    طاقم حكام مباراة بيراميدز وفيوتشر في الدوري    رئيس البنك الأهلي: متمسكون باستمرار طارق مصطفى.. وإيقاف المستحقات لنهاية الموسم    أمير عزمي: خسارة الزمالك أمام سموحة تصيب اللاعبين بالإحباط.. وجوميز السبب    فرج عامر: سموحة استحق الفوز ضد الزمالك والبنا عيشني حالة توتر طوال المباراة    طقس شم النسيم.. تحسن حالة الجو اليوم الاثنين    كشف ملابسات العثور على جثة مجهولة الهوية بمصرف فى القناطر الخيرية    نقابة أطباء القاهرة: تسجيل 1582 مستشفى خاص ومركز طبي وعيادة بالقاهرة خلال عام    تصل ل9 أيام متواصلة.. عدد أيام إجازة عيد الأضحى 2024 في مصر للقطاعين العام والخاص    بالأسماء.. إصابة 12 من عمال اليومية في انقلاب سيارة ب الجيزة    بيج ياسمين: عندى ارتخاء فى صمامات القلب ونفسي أموت وأنا بتمرن    حمادة هلال يكشف حقيقة تقديم جزء خامس من مسلسل المداح    أنغام تتألق بليلة رومانسية ساحرة في أوبرا دبي    حظك اليوم برج الحوت الاثنين 6-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    مصطفى عمار: «السرب» عمل فني ضخم يتناول عملية للقوات الجوية    "وفيها إيه يعني".. فيلم جديد يجمع غادة عادل وماجد الكدواني    الإفتاء: احترام خصوصيات الناس واجب شرعي وأخلاقي    عضو «المصرية للحساسية»: «الملانة» ترفع المناعة وتقلل من السرطانات    تعزيز صحة الأطفال من خلال تناول الفواكه.. فوائد غذائية لنموهم وتطورهم    إنفوجراف.. نصائح مهمة من نقابة الأطباء البيطريين عند شراء وتناول الفسيخ والرنجة    أسباب تسوس الأسنان وكيفية الوقاية منها    الصحة تحذر.. إذا ظهرت عليك هذه الأعراض توجه إلى المستشفى فورًا (فيديو)    الإسكان: جذبنا 10 ملايين مواطن للمدن الجديدة لهذه الأسباب.. فيديو    فى ليلة شم النسيم.. إقبال كثيف على محلات بيع الفسيخ فى نبروه||صور    ردا على إطلاق صواريخ.. قصف إسرائيلي ضد 3 مواقع بريف درعا السوري    سعرها صادم.. ريا أبي راشد بإطلالة جريئة في أحدث ظهور    الباشا.. صابر الرباعي يطرح برومو أغنيته الجديدة    بوتين يحقق أمنية طفلة روسية ويهديها "كلب صغير"    بإمكانيات خارقة حتدهشك تسريبات حول هاتف OnePlus Nord CE 4 Lite    مصرع وإصابة 6 في حادث انقلاب تروسيكل بمطروح    لفتة طيبة.. طلاب هندسة أسوان يطورون مسجد الكلية بدلا من حفل التخرج    المدينة الشبابية ببورسعيد تستضيف معسكر منتخب مصر الشابات لكرة اليد مواليد 2004    أستاذ اقتصاد: المقاطعة لعبة المستهلك فيها ضعيف ما لم يتم حمايته    أمطار خفيفة على المدن الساحلية بالبحيرة    مصر في 24 ساعة|اعرف طقس شم النسيم وتعليق جديد من الصحة عن لقاح أسترازينيكا    إغلاق مناجم ذهب في النيجر بعد نفوق عشرات الحيوانات جراء مخلفات آبار تعدين    وزيرة الهجرة: 1.9 مليار دولار عوائد مبادرة سيارات المصريين بالخارج    3 قتلى و15 مصابًا جراء ضربات روسية في أوكرانيا    نائب سيناء: مدينة السيسي «ستكون صاعدة وواعدة» وستشهد مشاريع ضخمة    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟ دار الإفتاء تجيب    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    أمينة الفتوى: لا مانع شرعي فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    «العمل»: جولات تفقدية لمواقع العمل ولجنة للحماية المدنية لتطبيق اشتراطات السلامة والصحة بالإسماعيلية    كنائس الإسكندرية تستقبل المهنئين بعيد القيامة المجيد    البابا تواضروس: فيلم السرب يسجل صفحة مهمة في تاريخ مصر    اليوم.. انطلاق مؤتمر الواعظات بأكاديمية الأوقاف    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حمدى قنديل يكتب عن بدايات التلفزيون العربى (2-2)
نشر في الشروق الجديد يوم 25 - 07 - 2010

المخرج الأشهر للدراما، التى شكلت وجدان الناس فى الستينيات، فكان نور الدمرداش الذى عرف بعد ذلك بملك الفيديو.. ولعل أشهر ما أخرجه كان مسلسل «لا تطفئ الشمس» و«هارب من الأيام» ثم «السقوط فى بئر سبع» قبل وفاته.. ورغم أن نور الدمرداش ظهر على الشاشة كممثل أيضا فإن حظه فيها لم يتعد حظ زميله محمد سالم إلا قليلا، وظل تميزه الأكبر خلف الكاميرات لا أمامها.. وخلف الكاميرا عادة ما كانت تسقط من الذاكرة أسماء مخرجى الأفلام التسجيلية الأوائل سعد نديم ومن بعده صلاح التهامى.. وكان فى مقدمة الذين عملوا فى صمت أيضا دون أن يعرفهم الناس المهندسون الإذاعيون بأجيالهم المتعاقبة من عرفة الزيان والجارحى القشلان وفاروق إبراهيم وفاروق عامر حتى أسامة الشيخ رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون الحالى الذى فاق الجميع شهرة بقنوات التليفزيون الخاصة التى ولدت على يديه فى السنوات الأخيرة
أما على الشاشة ذاتها فكان ألمع نجومها همت مصطفى كقارئة نشرة، وأحمد فراج فى برنامجه الذى يعد من أطول برامج التليفزيون عمرا «نور على نور»، وماما سميحة «عبدالرحمن» التى كانت كل عائلات مصر تود لو ظهر أطفالها فى برنامجها.. وبالطبع فإن نجوما آخرين جددا ظهروا على الشاشة السورية فى الوقت ذاته.. يكفى أنها قدمت لنا دريد لحام.. وإلى جانبه ظهر مقدمو برامج وقراء نشرات وصل صوتهم وصيتهم إلى القاهرة مثل عبدالهادى البكار وخلدون المالح وهيام طباع، ثم رشا مدينة التى كان لها برنامج فى التليفزيون المصرى استمر سنوات..
على أن الذى لم يباريه أحد فى الشهرة على شاشتى دمشق والقاهرة فكان عميد معلقى كرة القدم محمد لطيف الذى كان يمتع الناس بمعلوماته وقفشاته وحرصه الدائم على شكر مدير الأمن على المجهود الذى بذله لإتمام المباراة.. ولا أظن أن أحدا يمكنه أن يجادل فى أن كابتن لطيف كان من أسباب الرواج الكبير الذى لقيته كرة القدم عندئذ، والذى أدخل ألوف الجنيهات فى جيوب النوادى.. وقد تضاعف هذا الرواج بعرض مباريات كرة القدم الأجنبية، التى كان جمهور الكرة يعرف نجومها بالاسم، مثل دى ستيفانو وبيليه وستانلى ماتيوز وخنتو وغيرهم
.
كان بعض هذه المباريات يذاع فى اليوم التالى لها مباشرة، وبذلك لم تكن تلقى أهمية أقل من تلك التى تلقاها خطب الرئيس عبدالناصر عندما يكون فى الخارج.. روى لى مؤخرا الدكتور صباح قبانى الذى كان مديرا لتليفزيون دمشق عند افتتاحه ولسنوات فيما بعد أنه عندما ألقى الرئيس خطابه فى الأمم المتحدة فى شهر سبتمبر، أى بعد افتتاح التليفزيون بشهرين، كان المقرر أن تصل الطائرة التى تحمل الشريط السينمائى للخطبة إلى مطار دمشق فى الساعة الثانية مساء، ولما كان موعد نشرة الأخبار هو الثانية والنصف فقد اتخذت كل الإجراءات لضمان نقله إلى الاستوديو بسرعة، ومن بينها إرسال رتل من سبع سيارات إلى المطار حتى إذا تعطلت واحدة منها قامت أخرى بالمهمة.. ولحسن الحظ وصلت الطائرة فى موعدها وأذيعت الخطبة فى النشرة
كان هناك اهتمام فائق بأخبار الرئيس بالطبع، ولكن التليفزيون واكب الأحداث المهمة التى شهدتها المنطقة وشهدها العالم فى تلك الحقبة، وما أكثرها.. وكان من أفظع المشاهد التى أرقت المشاهدين لليال طوال مذبحة قرية ماى لاى الفيتنامية التى قتلت فيها القوات الأمريكية 347 شخصا، وكذلك مشهد زعيم الكونغو باتريس لومومبا بعد أن وقع فى أيدى قوات المرتزقة البلجيكية وهم يعذبونه ثم يعدمونه رميا بالرصاص، وهو المشهد الذى أدمى قلب عبدالناصر كما عرفت «اعترف الضابط الذى قاد القوة بعد ذلك بسنوات بأنه قطع جثة لومومبا قطعا صغيرة وأذابها فى حمض الكبريتيك واحتفظ باثنين من أسنانه».. وكنا نتابع نضال الشعوب الأفريقية من أجل الاستقلال أولا بأول، ولا تفوتنا تغطية الأحداث فى دول عدم الانحياز خاصة فى الهند ويوغوسلافيا، ولا أحداث مثل بناء سور برلين، واغتيال كينيدى «الذى تصدر النشرة قبل أخبار الرئيس» ومن بعده اغتيال مارتن لوثركنج، وثورة ماو الثقافية فى الصين، والثورة الطلابية فى باريس
..
ولكن الاهتمام بالأحداث العربية كان فائقا.. وما أزال أذكر حتى الآن كل لحظة من الأيام التى قضيتها أتابع الأخبار فى الدول العربية فى تلك السنوات العشر مع مصورى أخبار التليفزيون وعميدهم رشاد القومى «الذى تجاهلته احتفالات اليوبيل الذهبى هو الآخر».. وكنا قد تعرضنا للموت معا مرتين، إحداهما فى اليمن عندما ذهبت قواتنا إلى هناك فى 1962، والأخرى فى العراق عندما وقع انقلاب 1963.. وأذكر اليوم الذى تسللت فيه إلى عدن فى 1961 وهى تحت الاحتلال البريطانى، واليوم الذى تسللت فيه إلى قاعدة المرسى الكبير الفرنسية قبل استقلال الجزائر.. وأذكر يوم سافرنا واقفين فى طائرة أنتونوف إلى بنزرت لننقل صور الرئيس الذى ذهب إلى هناك ليهنئ تونس بجلاء القوات الفرنسية عن المدينة.. وأذكر نجاحنا أنا وهمت مصطفى ومراقب الأخبار أحمد سعيد أمين فى تسجيل حديث فريد مع الملك حسين، وفشلنا فى إجراء حديث آخر مع ملك المغرب الحسن الثانى رغم دعوته لنا وبقائنا فى الرباط ضيوفا عليه ننتظر.. أما الحدث الذى لا أود أن أتذكره فهو حرب 67 التى تابعتها من أول لحظة هوجمت فيها قاعدتنا الجوية فى فايد ونحن فيها نصور القوة العراقية المتمركزة هناك، مرورا بالحديث الذى أجريته مع الأسير الإسرائيلى الكولونيل عساف ياجورى، وحتى كان ما كان وألقى عبدالناصر خطاب التنحى
كنت فى استوديو 4 وقتها مع همت مصطفى حيث قدمنا الخطاب، ولما وقعت المفاجأة المذهلة قررنا معا أن نطالب عبدالناصر بالبقاء.. كلام رجالة، سألت همت مصطفى.. قالت كلام رجالة.. انطلقنا.. كان من السهل إيقافنا بإغلاق خط الإرسال من الاستوديو، لكن أحدا لم يخطر بباله ذلك وسط الفوضى العارمة.. فجأة، دخل علينا عبدالحميد يونس مدير التليفزيون، وكانت يده اليمنى ملفوفة بالجبس.
طلب منا أن نتوقف عن الكلام على الفور، إلا أن الذى شجعنا على الاستمرار كان مدير الأستوديو الشاب صبحى عبدالسلام العيص الذى انفجر فى الأستاذ عبدالحميد يطالبه بالخروج من الأستوديو ويهدده بكسر يده اليسرى
ولكنه ما إن مرت دقائق حتى طلبنا وزير الإعلام محمد فائق إلى مكتبه.. وعندما دخلنا صاح فينا: انتو عملتوها مسرحية؟.. الريس يتنحى وبعدين التليفزيون بتاعه يقول له لأه؟.. جادلته همت، وانطلقت أنا إلى شباك مكتبه أفتحه وأقول له يا سيادة الوزير اسمع الناس وأنت فى الدور التاسع بتقول إيه.. كان الصياح من حوارى بولاق يتصاعد مطالبا الرئيس بالبقاء وتحمل المسئولية
نعم، كنا نعيش فى نظام لا يوصف بالديمقراطية، ولكن ماذا يمكن للتليفزيون أن يفعل يوم الحرب التى هزمنا فيها هزيمة منكرة.. أظن أن أى عاقل لم يكن بإمكانه أن يقول للناس يومها إنهم هزموا هزيمة منكرة.. كان هذا سيحطم عزيمة الناس تماما.. وكان من الحكمة التى قد تبدو لنا الآن كذبا صراحا أن يسمى ما حدث نكسة.. ولا أزال حتى اليوم أعتقد أننى كنت مصيبا عندما طالبت عبدالناصر بالبقاء.. وعلى أى حال فقد كان بقاؤها هو الضمان الأول لاستنهاض الهمم وبدء حرب الاستنزاف ووضع الخطة التى كانت أساسا لحرب أكتوبر، وكان ضمانا أيضا لعودة الحكم للاستماع إلى الشعب.. كان للثورة أخطاؤها ولا شك، وفى مقدمتها مصادرة الحريات.. عن نفسى فقد اعتذرت للإخوان المسلمين منذ سنوات عن الأحاديث التى أجريتها مع المعتقلين منهم فى السجن الحربى عام 1965.. ولكننى أعود فأكرر ما قلته مرات من قبل أن معيار حرية الإعلام لم يكن واردا فى ذلك الزمن الذى شهد حربا عالمية باردة، وأننا نضخم الآن كثيرا من خطأ ممارسات القمع لأننا نتحدث بمعايير يومنا هذا التى علا فيها شأن حقوق الإنسان.. وقتها كان الناس يتقبلون التضحية ببعض حرياتهم وربما بها جميعا لأن الثورة كانت تبعث نهضة ولأنها خاضت الحروب واحدة بعد أخرى.
من مقاومة الاحتلال البريطانى، إلى العدوان الثلاثى، إلى حرب اليمن، إلى 67.. فليقل لنا سدنة النظام الحالى لماذا يقمعوننا وهم يتباهون بأن البلد فى عهدهم عرفت الاستقرار لأنها لم تخض حربا واحدة، ولماذا لم تقم فى البلد نهضة مادامت قد نعمت بكل هذا الاستقرار
أعود فأقول إن الأصوات الناشزة عن الخط العام كانت تسكت فى الستينيات، نعم.. ومع ذلك فإن قدرا من الحرية «يسمونه الآن هامش الحرية» كان متاحا لنا فى التليفزيون.. وكانت جرعة هذا القدر فائقة فى برنامج طاهر أبوزيد الشهير «رأى الشعب» الذى كان يجمع فيه الوزراء بالصحفيين عندما يأتى عيد الثورة فى يوليو، ويحاسبهم حسابا عسيرا.. والحق أننى نعمت بسقف عال فى برنامجى «أقوال الصحف» كان يثير دهشة المشاهدين.. وكان كثيرون، ومنهم زملاء بالتليفزيون، يعتقدون أنه ما كان ليتاح لى إلا لأن خالى هو المشير عامر، والحق أن خالى هو صادق حلاوة الذى كان ضابطا فى الشرطة لا قائدا للجيش.. وكنت أكتب فى مجلة «الإذاعة والتليفزيون» عمودا أسبوعيا قلت فيه الكثير، ومنه «إننى أجد خطرا كبيرا فى احتكار جهة واحدة للتليفزيون»، وإنه «لا يكفى أن نقول إن التليفزيون جهاز من أجهزة الدولة يعمل تحت رقابة قوى الشعب العامل، بل لابد لهذه القوى أن تشارك فى إدارة التليفزيون لا أن تراقبه فقط
بالرغم من ذلك فأنا لا أدعى أننا كنا نرفل فى نعيم من الحريات، وأعرف تماما أن عديدا من الصحفيين طردوا من مناصبهم ولوحقوا فى الستينيات وأعرف أسماءهم، وأعرف أن عملاق الصحافة مصطفى أمين سجن، وإن كان السبب هو تجاوزه لمهنته ومهمته ولا أريد أن أقول أكثر لأنه هو الذى فتح لى أبواب الصحافة فى 1955، ولكننى لا أود أن أذكر بصحفيين سجنوا أو طردوا فى عهود لاحقة، ولا حتى ببرامج تليفزيونية أوقفت فى تلك العهود مثل برنامج سمير صبرى «النادى الدولى» الذى حذف من الشاشة لأن فيفى عبده قالت فيه إنها من بلدة ميت أبوالكوم.. كل هذه سفاسف مقارنة بقمع الإعلام فى أيامنا هذه تحت دعاوى الحرية، أو مقارنة بأكبر عملية قمع شهدها الإعلام المصرى فى تاريخه الحديث فى بداية حكم الرئيس السادات، رحمه الله.
بعد «ثورة التصحيح» فى مايو 1971 كلفنى الدكتور حاتم بأن أرأس لجنة تحقيق فى التهمة التى وجهت إلى التليفزيون عندئذ، والإذاعة كذلك، بتخريب الاحتفال بعيد العمال الذى ألقى فيه الرئيس السادات خطابه فى أول مايو.. وكان معى فى اللجنة واحدة من رؤساء نيابة أمن الدولة، ومن التليفزيون كان المخرج أحمد عبدالفتاح والمهندس فاروق إبراهيم.. وتوصلنا جميعا إلى أن التشويش الذى حدث كان بترتيب من الاتحاد الاشتراكى، وذلك على براءة التليفزيون والإذاعة بعدة دلائل بينها أنه كان مستحيلا على أن مخرجا أن يتفادى نقل صور الرئيس عبدالناصر التى انتشرت فى جميع أرجاء الصوان، أو يتفادى أصوات الهتافات ضد الرئيس السادات والحفل مذاع على الهواء..
وعندما أبلغت وزير الإعلام بذلك رأى أننا سذج، وأننا لا ندرى بما يدور فى ماسبيرو، وأن مبناه حاشد بالشيوعيين.. ولما طلب منى كتابة تقرير آخر اعتذرت.. وذهبت يومها إلى صديقى سعد لبيب أنذره بأنه سيكون فى أول قائمة المتهمين كما ظننت.. وهذا ما حدث، فقد أحيل هو وصلاح زكى إلى المعاش مع اثنين من الإذاعيين الكبار «أعيدوا بعد ذلك بحكم قضائى ولكنهم تولوا مناصب استشارية بلا مسئولية حتى توفاهم الله».. ونقل من الإذاعة والتليفزيون يومها نحو 90 من العاملين فيها إلى مؤسسات أخرى، من بينهم نجمة كسميرة الكيلانى حولوها إلى وزارة التعليم
كانت سميرة الكيلانى دينامو البرامج الثقافية فى التليفزيون بعد الإذاعة.. وكانت هذه البرامج تلقى اهتماما خاصا من المسئولين، وكذلك من الجمهور الذى رأى لأول مرة طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغيرهم على الشاشة يتحدثون صوتا وصورة.. بل إن التليفزيونن كان يجرى وقتها مقابلات مع أدباء أجانب، أذكر منها مقابلة جان بول سارتر أثناء زيارته لمصر قبل حرب يونيو بشهور قليلة.. ولم يكن التليفزيون لينجح فى إنتاج هذه البرامج إلا لأن مصر كانت تشهد وقتها حياة ثقافية وفنية مفعمة بالحيوية.. كان فى مصر كتاب يصدر كل 6 ساعات عن هيئة الكتاب، وكان فيها عمالقة كبار فى الأدب والفن.. كان فى مصر أدباء مثل فتحى غانم وإحسان عبدالقدوس ويوسف السباعى، وكان فيها شعراء مثل عبدالرحمن الشرقاوى وصلاح عبدالصبور ومحمد عفيفى مطر، وكان فيها ملحنون مثل السنباطى والموجى وبليغ حمدى وكمال الطويل.. كان فيها علماء بارزون وصحفيون عمالقة وقامات كبار من المحامين والمهندسين وأساتذة الجامعات ونوابغ فى مناحى الحياة جميعا.. وكان فيها أيضا مطربون يطربون.. تكفى أم كلثوم بحفلاتها الشهرية فى سينما قصر النيل التى كان الحضور فيها دائما بملابس السهرة، ويكفى محمد عبدالوهاب وعبدالحليم وفريد الأطرش وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة.. أما نجوم السينما فلم يكن لهم حصر، نادية لطفى وأحمد مظهر وفاتن حمامة ورشدى أباظة وسعاد حسنى وفريد شوقى وغيرهم وغيرهم، كذلك كان مخرجو السينما الرواد أمثال يوسف شاهين وصلاح أبوسيف وأحمد بدرخان وتوفيق صالح الذى طفش إلى العراق بعد ملاحقته سياسيا فى السبعينيات
قلت فى مقال سابق فى «الشروق» إن نجاح التليفزيون، أى تليفزيون، يعتمد على أربعة معايير فى أولها أن يكون للدولة التى تعبر عنها المحطة مشروع وطنى ودور قومى فى محيطها، والثانى أن يتحلق حول رسالتها إجماع شعبى، والثالث أن تنبع المحطة من رحم نهضة فكرية وثقافية وفنية، أما المعيار الأخير فهو أن تعمل بمستوى مهنى عال.. واليوم أعود فأؤكد أن المعايير الأربعة توافرت فى أيام التليفزيون الذهبية فى الستينيات، وأن واحدا منها لا يتوافر لتليفزيون اليوم الذى يخدعنا باحتفالات اليوبيل الذهبى بإطلاق الألعاب النارية، وإطلاق قناة باسم «التليفزيون العربى» تخصص لبث تراث تليفزيون الستينيات كان يقال إنها تبث بشكل دائم إلا أن الأمر انكشف عندما اتضح أن بثها سيقتصر على أيام معدودة، ذلك أن تراث التليفزيون تم تبديده فى صفقات شائنة بيع فيها التراث من أفلام وأغان إلى قنوات عربية خاصة
أما القناة الأخرى التى كان مقررا أن تفتتح فى هوجة اليوبيل والتى تأجل إطلاقها إلى أكتوبر فهى قناة الأخبار العربية التى يرجع التفكير فيها إلى الفشل المزمن فى منافسة قناة الجزيرة، ويعود السبب فى تأجيل إطلاقها، كما قيل، إلى عدم اكتمال الاستعدادات الفنية.. والواقع أن الأمر لا يتعلق بذلك، بل يتعلق أولا وأخيرا، كما هو الحال بالنسبة لأى قناة إخبارية، بمدى الحرية ومدى الموضوعية المتاحة... والكل يعرف أن أيا من هذا غير متاح ولن يتاح طالما كان النظام القائم فى مصر قائما.. واقتراحى للتليفزيون إن كان يمكنه هضم أى اقتراح من جانبى أن يؤجل مشروعه هذا حتى يتم التغيير السياسى فى البلد، لأن الجمهور العربى بل الجمهور المصرى ذاته، لن يقبل على نشرة يتصدرها عنوة اسم رئيس الدولة وصورته لمجرد أنه ذهب إلى باريس لسبب غير مفهوم، أو لأنه عقد اجتماعا مع نتنياهو لا يقول لنا متحدثه الرسمى عنه شيئا سوى الكليشيهات التى أصبحت ممجوجة من كثرة تكرارها لكلام بلا معنى.
عندما سئل المشاهدون فى عام 1962 لماذا اشتروا جهاز التليفزيون قال 72٪ منهم إن السبب هو اكتساب معلومات جديدة، وقال نحو 90٪ من هؤلاء إنهم راضون عن القدر الذى يتلقونه من معلومات من التليفزيون. اليوم لا أستطيع أن أجزم بنتائج استفتاء كهذا، لكننى أعرف، ولدى عدة استفتاءات بكامل نتائجها، أن التليفزيون المصرى لا يتصدر إن لم نقل يتذيل قائمة القنوات التى يقبل عليها المصريون لاستقاء المعلومات، وأيضا للتثقيف والترفيه.. تليفزيوننا الآن هبط من أيام الستينيات الذهبية، بما لها وما عليها، إلى ما يقرب من الحضيض، وذهبت ريادته العربية إلى غير رجعة
بعد أن تحنط التليفزيون، تماما مثل النظام الذى يعبر عنه، نجده اليوم يتردى تماما كما يتردى النظام.. ويكفى فى هذا المقام أن أقتبس بعض ما قالته سيدتان فاضلتان تولت كل منها رئاسته فى فترة ما بعد الستينيات.. قالت الإذاعية القديرة سامية صادق فى حديث لها نشر فى «الشروق» منذ أيام: إن التليفزيون الآن فى مصر يهتم بالشكل دون المضمون، وإن الإعلان أفسد فيه كل شىء، وإنه يفتقد إلى الحس الفنى، وإن برامجه معلبة وبعضها متخلف.. وكررت السيدة سهير الأتربى فى حديثها لجريدة «اليوم السابع» هذا الأسبوع، اتهام التليفزيون بأن معظم برامجه إعلانية لا تعبر عن الشعب الذى ينفق على التليفزيون من فلوسه، بل إنها اتهمت وزير الإعلام بأنه لم يستهن فقط بأهل الخبرة وإنما تسبب فى إهدار المال العام وفى سرقة التراث.
والمؤكد أن السيد أنس الفقى وكل خبرته لا تزيد على كونه وكيلا لتوزيع مطبوعات أجنبية مسئول على هذا كله وأكثر، والمؤكد أن قامته لا يمكن أن تطال قامة عبدالقادر حاتم أو حتى من تلاه من وزراء مثل صفوت الشريف وجمال العطيفى ومحمد فائق وممدوح البلتاجى.. ولكننا يجب أن نأخذ فى الاعتبار أيضا أنه سكرتير للرئيس لا أكثر مكلف بشئون الورنيش الإعلامى.. والحكم الآن ليس فى حاجة إلى عملية تجميل بل إلى عملية تغيير.. لذلك فمن الظلم أن ينتهز البعض الفرصة ليطفئوا الكلوبات التى أشعلها تليفزيون اليوم عند سطح الهرم ليحتفل بيوبيل ذهبى لتليفزيون الأمس الذى لم يخرج من ضلعه.. الحل هو أن يرحل النظام القائم قبل أن يحتفل هو بيوبيله الذهبى.
حمدي قنديل يكتب عن بدايات لتليفزيون العربي (1 2)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.