كنت أقود سيارتى من واشنطن إلى نيويورك ذات يوم بعد الظهرعلى الطريق رقم 95، وهو من الطرق السريعة بين الولايات، عندما اقتربت سيارة مسرعة من خلفى، تكاد تطير بالفعل. واستطعت أن أرى فى المرآة الخلفية قائدة السيارة وهى تتحدث فى هاتفها المحمول. وكنت على وشك الانتقال إلى الحارة الوسطى كى أبتعد عن طريقها عندما انحرفت فجأة إلى نفس تلك الحارة لتتجاوزنى من جهة اليمين وهى لا تزال تتكلم فى المحمول. واستمرت فى الانتقال الخطر من حارة إلى أخرى وهى تقطع الطريق السريع. وبعد أيام قليلة، كنت أتحدث مع شخص يتنقل يوميا بين نيويورك ونيوجيرسى. وهو يضع جهاز الكمبيوتر النقال على الكرسى الأمامى بحيث يمكنه مشاهدة اسطوانات الدى فى دى أثناء قيادته السيارة. قال «لا أفعل هذا إلا فى إشارات المرور. هذا ليس بالأمر الخطير». وبعيدا عن مسائل الأمان الواضحة، لماذا يريد المرء، أو يحتاج، إلى التحدث طوال الوقت فى الهاتف أو مشاهدة الأفلام (أو كتابة الرسائل النصية) وهو يقود السيارة؟ وأنا أكره أن أبدو من طراز القرن العشرين، لكن ما العيب فى الاكتفاء بسماع الراديو؟ إن عجائب التكنولوجيا المباركة تغمرنا. ونحن لا نتحكم فيها، بل هى التى تتحكم فينا. ولدينا أجهزة المحمول والبلاك بيرى والكيندلز والآى باد، ونتبادل الرسائل الإلكترونية والرسائل النصية القصيرة والدردشة والرسائل البالغة القصر على موقع تويتر ظللت أخلط بين كلمتى توييتينج tweeting وتويتيرينج Twittering حتى نبهنى شاب بالمدرسة الثانوية إلى خطأى وشرح لى بصبر، كما لو كنت عبيط القرية، أن التعبير الصحيح هو توييتينج tweeting وأيا كان الحال، فالأمر أشبه بالاضطراب العصبى. وهذا كله ليس سوى جزء من المظاهر الغريبة فى ثقافتنا: سعار متصاعد يبدو وكأنه يفرض علينا إنجاز شيئين أو ثلاثة، على الأقل، فى كل دقيقة من كل ساعة من ساعات صحونا. لماذا يعتبر القيام بمهام متعددة موهبة تثير الإعجاب؟ يمكننا بسهولة أن نرى فى ذلك عجزا عصبيا عن التركيز لأكثر من ثلاث ثوانٍ. لماذا يتعين علينا أن نفتح بريدنا الإلكترونى أكثر من مرة فى اليوم، أو نترك آذاننا موصولة طوال الوقت بأجهزة المحمول، كما لو كانت ملتصقة بصمغ قوى؟ وعندما تشاهد الأخبار على التليفزيون الكابلى، تجد غالبا شريط أخبار يمر أسفل الشاشة، ونتائج سوق الأسهم على يمين الشاشة، وإعلانات عن الأفلام القادمة على يسارها. وعادة ما تعطل هذه الإضافات أجزاء مهمة، من الموضوع الرئيسى المفترض أنه موضع المشاهدة. وقد حكت لى إحدى صديقاتى عن حفل خطوبة حضرته. قالت إن الحفل كان رائعا: غذاء لذيذ والكثير من أنخاب الشمبانيا. لكن كل الضيوف كان معهم هواتفهم المحمولة على موائد الغذاء وظلوا يرسلون ويتلقون الرسائل القصيرة طوال مدة الحفل. ومع هذا السلوك مفرط النشاط، وهذا الطغيان التكنولوجى والسعار الذى لا يتوقف. نحتاج لأن نتأنى ونأخذ نفسا عميقا. وأنا لست ضد التقدم التكنولوجى الملحوظ الذى شهدته السنوات العديدة الماضية. ولا أريد العودة إلى الآلة الكاتبة وأفرخ الكربون والعودة إلى اللقطات المصفرة فى مخازن الصحف القديمة. كل ما فى الأمر أننى أعتقد أن علينا التعامل مع التكنولوجيا مثلها مثل أى أداة أخرى. علينا أن نتحكم فيها، ونخضعها لأغراضنا الإنسانية. فلنتخلى عن بعض هذه الأجهزة على الأقل ونقضى بعض الوقت مع أنفسنا. ومن مشكلات مجتمعنا الأساسية أن لدينا ميل، وسط كل الجنون المحيط بنا، لأن نفقد رؤيتنا لما هو إنسانى حقا فينا، بما فى ذلك احتياجاتنا الفردية تلك الأشياء بالغة الخصوصية ومعظمها غير مادى، التى قد تمنحنا التحقق، وتجعل لحياتنا معنى، وتعلى من شأننا، وتسهل علينا احتواء المحيطين بنا. وهناك شخصية فى مسرحية أوجست ويلسون «ذهاب ورجوع جو تيرنر» تقول إن لكل فرد ترنيمته الخاصة داخله، وإذا غابت عن بالك هذه الترنيمة فسوف تتحمل العواقب. وإذا فقدت الاتصال بترنيمتك، فلن تعرف كيف تغنيها، وسينتهى بك الأمر بالإحباط والتذمر. وحسب تعبير الشخصية، وهى تتذكر الوقت الذى انقطعت فيه صلتها بترنيمتها الخاصة، «شيئا ما كان يحول دون رقة قلبى وهدوئه». ولا أعتقد أن من الممكن أن نظل متصلين بترنيمتنا عبر استخدامنا المتواصل لتويتر، وكتابة الرسائل على أجهزة بلاك بيرى، أو تكديس الأصدقاء الافتراضيين على فيس بوك. إننا بحاجة إلى تخفيض سرعة إيقاع حياتنا. نحتاج إلى تذوق الرحلة. اترك هاتفك المحمول فى المنزل بعض الوقت من حين لآخر. حاول أن تتبادل القبلات أكثر وتقلل من رسائلك على تويتر. ولا تسرف فى الحديث. ولتنصت. فالآخرون لديهم ما يقولونه، أيضا. وعندما لا يكون لديهم ما يقولونه، فإن الصمت البليغ الذى تسمعه يقول أكثر مما يمكن أن يخطر ببالك. عندها ستسمع ترنيمتك. وعندها سوف ترسخ أفضل أفكارك، وتصبح أنت نفسك بحق.