نستعرض هنا ملخصًا لدراسة شاملة أعدتها مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى مؤخرا عن أزمة اليورو الأخيرة، وتناول الكاتب فيها الأسباب الرئيسية للأزمة، وتداعياتها، وكيفية علاجها. استغرقت المرحلة الخطيرة من الأزمة الاقتصادية العالمية وقتا قصيرا، حيث امتدت من 15 سبتمبر 2008، يوم انهيار ليمان براذرز، وحتى 9 مارس 2009، حينما هبط مؤشر داو جونز إلى أدنى مستوى له. لكنه مثلما هو الحال مع الأزمات القلبية الحادة، استمر انقطاع الائتمان الذى يمثل الدورة الدموية بالنسبة للاقتصاد فترة كانت كافية لإحداث تلف دائم فى البلدان الصناعية التى تقع فى قلب الأزمة. وقد اتخذ هذا التلف ثلاثة أشكال أساسية، يمثل كل منها تهديدا كبيرا لاستقرار الاقتصاد العالمى فى الوقت الراهن: ارتفاع الدين العام، وضعف البنوك، وتراكم كميات ضخمة من السيولة يجب استخدامها. وترتبط أزمة اليورو التى تضرب أكبر كتلة تجارية فى العالم باثنين من العوامل الثلاثة القاتلة إشكالية الديون السيادية لدى اليونان والدول الضعيفة الأخرى، وضعف البنوك الأوروبية التى تتحمل قسما كبيرا من هذه الديون. ومازالت السياسة النقدية فى منطقة اليورو والدول الصناعية توسعية بشكل عام. وإذا كان هناك أثر للأزمة فيما يخص هذا الشأن، فهو أنها أرجأت الوقت الذى يمكن فيه للتضييق أن يحدث بشكل آمن. ونتيجة للمشكلات التى تحدث فى أوروبا، فقد أصبح الاقتصاد العالمى أكثر عرضة لثلاث نقاط ضعف كبرى. الأسباب العميقة لأزمة اليورو على الرغم من أن تضخم الدين ربما يكون المظهر الأكثر وضوحا للأزمة، فإن جذور الأزمة أعمق من ذلك بكثير، حيث ترتبط بتراجع الوضع التنافسى للاتحاد الأوروبى، بفعل انضمام دول كاليونان وأيرلندا وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا إلى مصاف الدول التى تتعامل باليورو. وتتشابه الدول الخمس فى تسلسل الأحداث الذى أدى إلى تراجع القدرة التنافسية: صاحب تبنى اليورو انخفاض كبير فى معدلات الفائدة وتزايد فى الثقة، حيث كان من المتوقع أن تقترب المؤسسات والدخول من نظيراتها فى اقتصادات شمال أوروبا. تزايد الطلب الداخلى، مما رفع سعر السلع والخدمات التى يجرى تداولها محليا مقارنة بتلك التى يجرى تداولها فى السوق الخارجية، كما ارتفعت الأجور مقارنة بالإنتاجية. تسارعت معدلات النمو الناتج عن التوسع فى الخدمات المحلية وقطاع التشييد وزيادة المصروفات الحكومية، بينما ظلت نسبة الصادرات إلى إجمالى الناتج المحلى كما هى، وارتفعت الواردات وكذلك عجز الحساب الجارى، فى ظل وفرة رأس المال الخارجى. كانت النتيجة تزايد الدين الحكومى أو الخاص أو كليهما. وفى غضون ذلك، شهدت ألمانيا تحولا تاريخيّا بحيث أصبحت أكبر بلد مصدر فى العالم، وحصدت دول شمال أوروبا الفوائد الناتجة عن التوسع فى الأسواق والقدرة التنافسية المنخفضة للدول الخمس المذكورة كافة. وكان نمط النمو فى تلك البلدان الخمسة معيبا فى أساسه، مما أدى فى نهاية المطاف إلى انفجار فقاعة الطلب المحلى. والآن، يجب على الحكومات الانكماش، فى الوقت الذى يحول فيه ارتفاع التكاليف دون نجاح الجهود الرامية إلى الاعتماد على الصادرات فى النمو. وتجد الدول نفسها أسيرة توازن يستند إلى معدلات نمو منخفضة. كما أن احتمالات حدوث معارك داخلية حول الموارد المحدودة لن يؤدى سوى إلى الإسراع فى ظهور أزمة. وتنطبق هذه القصة فى جوهرها على الدول الواقعة على أطراف منطقة اليورو، على الرغم من اختلاف التفاصيل بين بلد وآخر. آثار الأزمة على البلدان الأخرى تعرضت بلدان لا تقع فى منطقة اليورو لكنها ربطت عملاتها به قبل سنوات عديدة، إلى سلسلة من الأمراض الخبيثة. وتضمنت تلك الدول لاتفيا وأستونيا وليتوانيا. وعلى الرغم من أن الدول التى انضمت مؤخرا إلى منطقة اليورو، كالمجر ورومانيا، حافظت على معدلات مرنة لأسعار الصرف، فإن قدرتها على تخفيض قيمة العملة تظل محدودة بفعل ارتفاع الديون الخارجية بالعملات الأجنبية. ونتيجة لذلك، عانت تلك البلدان أيضا من أمراض اليورو. وسوف تشعر بقية بلدان العالم بآثار أزمة اليورو خلال ست قنوات مهمة. أولا: سوف تؤدى الأزمة إلى انخفاض معدلات النمو فى أوروبا، وهى السوق التى يتوجه إليها نحو ربع صادرات العالم. ثانيا: سوف تؤدى الأزمة إلى انخفاض قيمة اليورو، مما يؤدى إلى حدوث تراجع حاد فى أرباح الصادرات وزيادة حدة المنافسة من جانب دول القارة. ثالثا: مع استمرار تراخى السياسة النقدية الرامية إلى الحد من التضخم فى أوروبا والدول الصناعية الأخرى، قد تؤدى الأزمة إلى تزايد تدفقات رأس المال المتوجهة إلى بلدان الأسواق الناشئة. رابعا: سوف تزيد الأزمة كثيرا من تذبذب الأسواق المالية وتؤدى إلى حالة من الخوف من المخاطرة. خامسا، وربما الأهم: سوف تؤدى الأزمة إلى توجيه ضربة قاتلة إلى العديد من مؤسسات التمويل الهشة. سادسا: سوف يؤدى الفشل فى احتواء الأزمة إلى القلق بشأن الديون السيادية فى البلدان الصناعية الأخرى، وكذلك فى أية سوق ناشئة ضعيفة بالقطع. طرق العلاج السياسية فى منطقة اليورو يبين الركود المفجع فى الأرجنتين الذى أدى إلى فشل قانون القابلية للتحويل، وانخفاض قيمة العملة ثم العجز عن سداد الدين فى 2001 2002، وكذلك ما حدث فى لاتفيا التى اختارت مواجهة الأزمة عبر الحد من العجز وخفض الأجور، أنه لا توجد بدائل سهلة للتعامل مع تراجع الوضع التنافسى وارتفاع الدين بالعملات الخارجية. ولا شك فى أن اليورو لم يعد عملة أجنبية بالنسبة لليونان، لكنه سوف يصبح كذلك حال اختيارها مغادرة منطقة اليورو من أجل استعادة وضعها التنافسى. وقد يثبت يوما ما أن ذلك هو الخيار الأفضل عند التعامل مع الأزمة. إذا لم تكن الدول التسع التى تأثرت أكثر من غيرها بالأزمة (الدول الخمس المذكورة بالإضافة إلى أستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبلغاريا) على استعادا لمغادرة منطقة اليورو، فيجب عليها اللجوء إلى مزيج معروف من إجراءات الحد من العجز بهدف تحقيق استقرار فى نسبة الدين إلى إجمالى الناتج المحلى والإصلاحات الهيكلية، بهدف تعزيز الإنتاجية والتنافسية ورفع احتمالات النمو. ويمكن أن يساعد تخفيض العجز فى حد ذاته على تقليل الطلب المحلى والحد من الأجور. لكن الاعتماد على إجراءات تخفيض العجز وحدها بدون الإصلاحات الهيكلية فى استعادة القدرة التنافسية قد يتطلب تقشفا مؤلما يمتد لسنوات عديدة. حتى فى ظل حزمة الدعم الأخيرة التى تلقتها اليونان والدول الضعيفة الأخرى، سوف تظل عمليات التكيف هذه انكماشية فى طبيعتها. ويمكن أن يتراجع الناتج المحلى الإجمالى فى البلدان التى تطبق إجراءات للتكيف، مما يزيد من صعوبة استقرار نسبة الدين إلى إجمالى الناتج المحلى، إلا إذا تم تعويض الأثر الانكماشى بالمزيج التالى: حدوث تعافٍ مستمر للتجارة العالمية، وتبنى سياسة نقدية توسعية، وتخفيض سعر اليورو، وزيادة الطلب المحلى فى دول الفائض الأوروبية، ومن بينها ألمانيا وهولندا اللتين من المرجح أن تستفيدا من انخفاض سعر اليورو. وحيث إن الدول الأوروبية تقوم بمعظم تجارتها مع بعضها البعض، وحيث إن البلدان الأقل تنافسية تميل إلى التركيز على الأسواق الأوروبية الأخرى، فيجب أن يتركز الجانب الأكبر من التنافسية وإعادة تخطيط الطلب المجمع فى داخل أوروبا. رد الفعل فى بقية مناطق العالم لعل الأمر الأكثر أهمية أن هذه الأزمة بَيَنَت للبلدان الواقعة خارج منطقة اليورو أن عليها الاعتماد بدرجة أكبر على الطلب المحلى والطلب من جانب الأسواق الناشئة، والتحلى بالحذر عند وضع السياسات المتعلقة بالاقتصاد الكلى. وبالإضافة إلى ذلك، يجب على أعضاء الاتحاد الأوروبى المرتقبين الحذر وإرجاء الانضمام إليه لحين مواجهة مشكلة ضعف القدرة التنافسية لديها. واستنادا إلى خبرات الدول الخمس المذكورة، يجب على الأعضاء المرتقبين عدم توجيه الاستثمارات التى تأتى إليها نحو قطاعات السلع والخدمات التى تُتداول محليّا، وكذلك الاحتفاظ بفوائض كبيرة فى الموازنة. أخيرا وليس آخرا، كشفت أزمة اليورو حدود الآليات الإقليمية حتى بين البلدان الغنية فى التعامل مع الأزمات المالية. كما أكدت الأزمة على الدور الحيوى الذى يمكن أن يلعبه «مقرض الملاذ الأخير العالمى»، أى صندوق النقد الدولى. ولا تستطيع تلك المؤسسة العالمية وحدها تقديم المزيد من الموارد والخبراء مقارنة بالمتاح لدى المؤسسات الإقليمية، بل إن المسافة التى تفصل بينها وبين السياسات الإقليمية المنقسمة على بعضها البعض يمكن أن تمثل أصلا كبيرا.