مع الاحتلال البريطانى لمصر عام 1882، تدخلت السلطات الإنجليزية فى تعيين القضاة الأجانب فى تلك المحاكم، وقد واجهتها صعوبات وخاصة من فرنسا، ولكنها تصدت بقوة وعملت لصالح وجودها. أما بالنسبة للقضاة المصريين الذين التحقوا بذلك القضاء، فلم يكن مستواهم على درجة عالية من الكفاءة والخبرة، وبالتالى لم يكن لهم الدور المؤثر أمام القضاة الأجانب الذين توافرت لديهم الإمكانات المطلوبة، وحتى عندما كان هناك بعض القضاة المصريين الذين تنطبق عليهم إلى حد الشروط لاعتلاء المنصة، فضلوا أن يمارسوا المهنة فى المحاكم الأهلية، ولكن حين دارت عجلة التطور، واتسعت دائرة المثقفين، وارتفع مستوى القضاة المصريين فى المحاكم المختلطة واجهوا حربا شعواء على يد المعتمد البريطانى الذى استند على أنهم يسببون المتاعب للإنجليز، وذلك بسبب ارتباطهم بالحركة الوطنية، ومن ثم نالوا الجزاء. * * * وكان لابد من وجود قضاء أهلى يواكب التطورات فى ظل منظومة القضاء المختلط، وبدأ الشروع فى إنشائه منذ عام 1880، وصُدق على لائحته فى نوفمبر 1881 أى أثناء فترة الثورة العرابية، واتخذت مبدأ عدم عزل القضاة، وإنما للحكومة حق استبدال من ترى فيه عدم اللياقة فى السنوات الأولى من حكمه، وألا يجوز نقلهم من محكمة إلى أخرى إلا بموافقتهم، ووضعت الشروط لاختيارهم وحقوقهم وواجباتهم، ولكن تعطل التنفيذ لما وقع من أحداث انتهت بالاحتلال. وما لبث أن بدأت المحاكم الأهلية أعمالها فى 14 فبراير 1884. وتمثلت خطة المحتل تجاه تلك المحاكم الجديدة فى أن يجلس على منصتها قضاة أجانب وخاصة من جنسه بجوار القضاة المصريين الذين تم تصنيفهم على أنهم أصحاب المستوى الأدنى، كذلك اشتملت الخطة على أن تتحكم السلطة التنفيذية الممثلة فى ناظر (وزير) الحقانية كواجهة فى القضاة، وكان المستشار القضائى البريطانى هو المحرك الأساسى لها، إذ أصبح يمتلك السلطة المطلقة على الساحة القضائية، وينسب إليه وضع نظام التفتيش القضائى الذى يقضى على أى بارقة أمل فى استقلال القضاء وحريته، وأضحى التقييد واضحا بعد تشكيل لجنة المراقبة القضائية التى تولى رئاستها، ومضت فى التنفيذ، فجعلت نفسها بمثابة محكمة عليا، وتلاعبت بأحكام القضاة، ولامتهم وعنفتهم، ومنحتهم الترقية ومنعتها عنهم، وعاقبتهم وكافأتهم وفق هواها، وبالطبع لما تقتضيه المصلحة السياسية المتواكبة مع تحقيق أهداف الإنجليز. ولما كانت محكمة الاستئناف لا تخضع للمراقبة القضائية، فقد شكل المستشار القضائى البريطانى لجنة لتفسير أحكام المستشارين، فكان ذلك مما أفقدهم السلطة وأنزل من شأنهم. وانعكست تلك الأوضاع السيادية على الهيئة القضائية، فهناك قضاة انصاعوا حتى لاتمسهم السلطة، وهناك من شاغبوا ونالوا المقابل، ولكن على جانب آخر هناك المعتدلون الذين وازنوا أمورهم من أمثال محمد عبده وسعد زغلول وقاسم أمين وغيرهم. ولم تكن المحاكم الشرعية ببعيدة عن التحكم، إذ نالت السلطة منها، فتعرضت للتسلط الإدارى، وخضعت للتفتيش وأحكام الرقابة، وقد لعبت التوجيهات الإنجليزية الدور فى ذلك من وراء ستار. * * * ومنح قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914 وإعلان الحماية البريطانية على مصر الفرصة لمزيد من السلطة للإنجليز، فأنهوا خدمات قضاة الجبهة التى دخلوا ضدها فى الحرب، وشغلوا أماكنهم بقضاة إنجليز، وتحكموا فى قضاة الدول الصغرى، كذلك كان السعى لإلغاء الامتيازات الأجنبية وما يتبعها حتى تنفرد بريطانيا بالسيطرة دون عقبات تقف فى طريقها. وقد نجحت بعد عقد معاهدة 1936 مع مصر فى أن تساهم بنصيب وافر فى مؤتمر مونترو الذى عقد عام 1937 وحقق اتفاقه مسعاها، وأعطى مهلة قدرت باثنى عشر عاما للإعداد لإنهاء أجل القضاء المختلط وسحب اختصاصات القضاء القنصلى ماعدا الأحوال الشخصية لرعاياه. ومرت مرحلة التصفية ثم المرحلة المتعلقة بنقل الاختصاصات إلى القضاء الوطنى الذى أصبح منذ عام 1949 قضاء مصريا خالصا، وقد قام القانونيون المصريون الأكفاء بدورهم المهم والفعال فى هذا التحول. ومما لا شك فيه أن اختفاء قضاء يكاد يكون أجنبيا، مارس نفوذه وسلطانه وعدوانه على القضاء الأهلى لمدة خمسة وستين عاما قد شكل بعض التخفيف عنه من أعباء التسلط عليه.