السيارات المارة تعكس أنوارها على تمثال طائر العنقاء المحلق فى ميدان فلسطين. الساعة تجاوزت الحادية عشرة مساء بقليل، خلت الشوارع من المارة وغرق وسط مدينة غزة فى الظلام. حكاية الظلام هنا تشبه تلك الأساطير الإغريقية عن طائر «الفينيق» كما يسميه أهالى غزة. حكايات خرافية سريعا تحولت إلى واقع اعتاده الغزاوية. على ركن من مائدة الطعام، جلست مريم على ضوء «الشنبر» تراجع فى كتاب اللغة العربية، فغدا تبدأ امتحانات «التوجيهى» فى القطاع المحاصر. الشنبر مصباح صغير الحجم يعمل بالغاز، ويشبه كثيرا ما يستخدمه الحراس فى قرى مصر ويطلقون عليه «الكلوب»، أما فى غزةالمدينة فهو البديل اليومى للانقطاع المستمر للتيار الكهربائى. ساعات طويلة تقضيها مريم وأسرتها فى الظلام. «أيام يقطع 8 ساعات وأيام 12 ساعة»، ولا جدول ثابتا لقرار شركة الكهرباء بفصل التيار عن محافظات القطاع خاصة المناطق الوسطى ولا إنذار مسبق. «ساعات يعلنون فى الراديو أو فجأة يقطع»، تقول مريم التى كيفت حياتها على الكهرباء. «يوم يقطع من 3 العصر إلى 10 مساء وبعدين يقطع تانى 6 صباحا واليوم التالى يقطع حتى 3 عصرا وييجى حتى 10 مساء»، هذا هو جدول الكهرباء الذى يحدد أيضا جدول نوم مريم ومذاكرتها. «مش إشكالية كبيرة أنا نظمت حياتى على الكهرباء»، تقول مريم، الطالبة فى مدرسة جبالية الثانوية. «طول ما الكهرباء موجودة باذاكر. أيام أذاكر فى الليل وأنام الصبح وأيام العكس». والمسلسل فى التليفزيون؟ «يوم آه ويوم لأ. حتى جدتى كانت تأتى لزيارتنا كل أربعاء، دلوقتى أسبوع آه وأسبوع لأ، عشان الأسانسير». تسكن مريم فى الدور الرابع فى عمارة من المبانى القليلة المرتفعة فى غزة، فهى تنتمى إلى أسرة ميسورة الحال إلى حد ما، تملك رفاهية شراء مولد كهرباء كما هو حالات عائلات كثيرة فى غزة، لكن أم أحمد، والدة مريم ترفض الفكرة تماما، بعد أن سجلت غزة حالت وفيات وحروق أو تسمم فى حوادث متعلقة بالمولدات. ووفقا لتقرير صادر فى منتصف مايو الماضى عن مكتب تنسيق الشئون الإنسانية فى الأراضى الفلسطينيةالمحتلة، التابع للأمم المتحدة «قتل 27 شخصا وجرح 37 خلال الأربعة أشهر الأولى من العام الحالى» بسبب تلك المولدات، وهى فى معظمها صينية الصنع، رخيصة، تتسبب فى إيذاء من يتعامل معها. ومعظم المولدات يتم استيرادها عبر الأنفاق مع مصر. تصدر الثلاجة صوتا قصيرا، التقطته أذن روبى شقيقة مريم، ثوان أعقبها ضجيج المولدات عند جيران مريم وأسرتها. الحكاية بدأت قبل الحصار الإسرائيلى على غزة، كان ذلك فى شهر يونيو أيضا لكن قبل 6 سنوات، أسرت المقاومة الفلسطينية الجندى الإسرائيلى «جلعاد شاليط»، فقررت تل أبيب إظلام غزة وقصف طيرانها محطة توليد الطاقة الكهربائية الوحيدة فى القطاع. «كانت الكهرباء تقطع يوما واحدا فى الأسبوع، بعد القصف كنا نشوف الضوء 4 ساعات بس»، تتذكر الفتاة ذات البشرة السمراء والشعر الأسود الغزير. بعد خمسة أشهر: استأنفت محطة توليد الكهرباء الإنتاج، ولكن على مستوى بالغ الانخفاض، بلغ 65 ميجاوات مقارنة بنحو 140 ميجاوات وهى الطاقة المفترض الحصول عليها عند تشغيل جميع التوربينات، قبل القصف الإسرائيلى. ويشير تقرير الأممالمتحدة الأخير إلى «أن فرض إسرائيل الحصار على قطاع غزة فى يونيو 2007، زاد من تشديد القيود المفروضة على واردات قطع الغيار والمعدات والمواد الاستهلاكية والوقود الصناعى اللازم لتشغيل محطة توليد الكهرباء وشبكة الكهرباء ونتيجة لذلك حدث نقص مزمن فى مستوى إنتاج الطاقة فى محطة غزة لتوليد الكهرباء». مع بداية العام الحالى ازداد النقص اليومى فى الكهرباء، بعد أن تنازل الاتحاد الأوروبى عن التزامه بتوفير الدعم المباشر لشراء السولار لمحطة الكهرباء التى توقفت تماما عن العمل مرتين منذ يناير. وتعمل المحطة الآن باستخدام توربين واحد، وتنتج 30 ميجاوات فقط من الكهرباء، أى نصف ما كانت تنتجه العام الماضى، وهو ما جعل الشهرين الماضيين الأسوأ فى حياة الغزويين. «فى يوم جات الكهربا الساعة 2 الصبح، صحيت ستات الحى كلهم. اللى تغسل واللى تخبز واللى تشحن الجوال واللى تطبع ورق المذاكرة.. خرب المحول من شدة السحب»، كما تروى أم مريم. تشترى غزة 42% من احتياجاتها للكهرباء من إسرائيل ونحو 7% من مصر ومن المفترض أن تغطى محطة غزة النقص الباقى. لكن مع انخفاض الإنتاج الأخير لم تعد المحطة قادرة على تلبية سوى 12% فقط من احتياجات الكهرباء. «اليهود هما السبب والمصريين كمان، ليه ما بيتعاونوا معنا، ايش دخل اسرائيل بيناتنا؟»، تتساءل مريم وهى تطرح اقتراحها لحل أزمة انقطاع التيار. «فى امكاننا ناخد كهربا من مصر وندفع ليها بدل من اليهود. احنا بندفع شىء كتير، هاتكسبوا كتير. المصريين أبدى من اليهود إلى بيتحكموا فينا وفى أرزاقنا». وتقول شركة كهرباء غزة إنها تسعى «لاستيراد الغاز الطبيعى من مصر لاستبداله بالسولار الصناعى الذى تحصل عليه من إسرائيل لتشغيل المحطة». «الله بيعينا»، تطلق «أم أحمد» زفرة عميقة وتقول «الشنبر بيجمعنا فى مكان واحد، نقعد نتكلم ونحكى عن الكهرباء. والله يقطع إسرائيل». وتروى مريم «ذكريات وحكايات المدرسة» وتتحدث عن أمنيات، «نفسى أسافر، أروح أى مكان. يمكن انجح لو فتح المعبر. هو هيك فاتح؟ من وإحنا صغار بنسمع انه مسكر».