سعر الفراخ البيضاء.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية الجمعة 17 مايو 2024    النمسا تتوعد بمكافحة الفساد ومنع إساءة استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي    شهداء وجرحى في غارات إسرائيلية على مناطق متفرقة من غزة    شقيقة زعيم كوريا الشمالية: نظرية صفقة الأسلحة مع روسيا هي الأكثر سخافة    كندا تفرض عقوبات على مستوطنين إسرائيليين بسبب انتهاكات    الاستخبارات العسكرية الروسية: الناتو قدم لأوكرانيا 800 دبابة وأكثر من 30 ألف مسيرة    فاروق جعفر: مباراة الزمالك أمام نهضة بركان لن تكون سهلة    عاجل - "احترسوا من الجو".. حالة الطقس اليوم ودرجات الحرارة في محافظة جنوب سيناء    شريف الشوباشي: أرفض الدولة الدينية والخلافة الإسلامية    لبلبة: عادل إمام أحلى إنسان في حياتي (فيديو)    كيفية معالجة الشجار بين الاطفال بحكمة    أضرار السكريات،على الأطفال    نجم الأهلي السابق يتوقع طريقة لعب كولر أمام الترجي    ملف يلا كورة.. موقف شيكابالا من النهائي.. رسائل الأهلي.. وشكاوى ضد الحكام    شبانة يهاجم اتحاد الكرة: «بيستغفلنا وعايز يدي الدوري ل بيراميدز»    هل يشارك لاعب الزمالك في نهائي الكونفدرالية بعد وفاة والده؟    بعد قفزة مفاجئة.. سعر الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم الجمعة 17 مايو 2024 بالصاغة    36 ثانية مُرعبة على الطريق".. ضبط ميكانيكي يستعرض بدراجة نارية بدون إطار أمامي بالدقهلية-(فيديو)    مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 17 مايو 2024    الاحتلال يواصل إغلاق معبري رفح وكرم أبو سالم (فيديو)    الذكاء الاصطناعى.. ثورة تكنولوجية في أيدى المجرمين الجدد    «مش هيقدر يعمل أكتر من كدة».. كيف علّقت إلهام شاهين على اعتزال عادل إمام ؟    يوسف زيدان يفجر مفاجأة بشأن "تكوين": هناك خلافات بين الأعضاء    من أجل بطاقة السوبر.. ماذا يحتاج برشلونة لضمان وصافة الدوري الإسباني؟    فاروق جعفر: واثق في قدرة لاعبي الزمالك على التتويج بالكونفدرالية.. والمباراة لن تكون سهلة    يوسف زيدان يهاجم داعية يروج لزواج القاصرات باسم الدين: «عايزنها ظلمة»    تحرك جديد.. سعر الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 17 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    فصائل عراقية تعلن استهدف موقع إسرائيلي حيوي في إيلات بواسطة الطيران المسير    محافظ جنوب سيناء ووزيرة البيئة يوقعان بروتوكول أعمال تطوير مدخل منطقة أبو جالوم بنويبع    بعد اختفائه 12 يومًا.. العثور على جثة الطفل أدهم في بالوعة صرف بالإسكندرية    برج الجدى.. حظك اليوم الجمعة 17 مايو: "جوائز بانتظارك"    أحمد السقا يكشف عن مفاجأة لأول مرة: "عندي أخت بالتبني اسمها ندى"    " بكري ": كل ما يتردد حول إبراهيم العرجاني شائعات ليس لها أساس من الصحة    «واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن والمرافق العامة» .. موضوع خطبة اليوم الجمعة    محافظ الغربية: تقديم الخدمات الطبية اللائقة للمرضى في مستشفيات المحافظة    ترقب المسلمين لإجازة عيد الأضحى وموسم الحج لعام 2024    ماذا قالت نهاد أبو القمصان عن واقعة فتاة التجمع وسائق أوبر ؟    قوات الإنقاذ تنتشل جثة مواطن سقط في مياه البحر بالإسكندرية    كارثة تهدد السودان بسبب سد النهضة.. تفاصيل    تركيب المستوى الأول من وعاء الاحتواء الداخلي بمفاعل محطة الضبعة النووية    الدراسة بجامعة القاهرة والشهادة من هامبورج.. تفاصيل ماجستير القانون والاقتصاد بالمنطقة العربية    براتب 1140 يورو.. رابط وخطوات التقديم على وظائف اليونان لراغبي العمل بالخارج    شروط الحصول على المعاش المبكر للمتقاعدين 2024    المظهر العصري والأناقة.. هل جرَّبت سيارة hyundai elantra 2024 1.6L Smart Plus؟    طارق مصطفى: استغللنا المساحات للاستفادة من غيابات المصري في الدفاع    عاجل - واشنطن: مقترح القمة العربية قد يضر بجهود هزيمة حماس    لا عملتها ولا بحبها.. يوسف زيدان يعلق على "مناظرة بحيري ورشدي"    كلمت طليقى من وراء زوجي.. هل علي ذنب؟ أمين الفتوى يجيب    براميل متفجرة.. صحفية فلسطينية تكشف جرائم إسرائيل في غزة    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الجمعة 17 مايو 2024    الوادى الجديد: استمرار رفع درجة الاستعداد جراء عواصف ترابية شديدة    بعد عرضه في «كان» السينمائي.. ردود فعل متباينة لفيلم «Megalopolis»    كاميرا ممتازة وتصميم جذاب.. Oppo Find X7 Ultra    طريقة عمل بيكاتا بالشامبينيون: وصفة شهية لوجبة لذيذة    للحفاظ على مينا الأسنان.. تجنب تناول هذه الفواكه والعصائر    تنظم مستويات السكر وتدعم صحة العظام.. أبرز فوائد بذور البطيخ وطريقة تحميصها    لا عملتها ولا بحبها ولن نقترب من الفكر الديني.. يوسف زيدان يكشف سر رفضه «مناظرة بحيري ورشدي»    أعطيت أمي هدية ثمينة هل تحق لي بعد وفاتها؟.. أمين الفتوى يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



والحب أقتلهُ دفينهُ
نشر في الشروق الجديد يوم 10 - 06 - 2010

لكأن الآنسة أم كلثوم كانت تقرأ لأحمد رامى فنجانه وهى تشدو أمامه على مسرح الأزبكية فى عام 1924 بقصيدته التى لم تستأذنه فى غنائها وتقول بعض أبياتها:
الصّبُ تفضحه عيونه وتَنَم عن وجد شجونه
إنّا تكتمنا الهوى والحبُ أقتلهُ دفينهُ
وذلك أن رامى الذى حلت ذكرى رحيله فى الخامس من يونيو الماضى قُدر له أن يكابد حبا دفينا لأم كلثوم من أول لحظة رآها فيها وحتى واراه الثرى بعد وفاتها فى عام 1975 بستة أعوام طويلة. لم يكن حب رامى لأم كلثوم دفينا بالمعنى الحرفى للفظ الذى يفيد حبس مشاعره بين جوانحه، فعلى العكس من ذلك تماما كان رامى مفصحا عن حبه لملهمته ب137 أغنية كتبها لها، أكثرها يدخل فى باب الغزل ودا وصدا وحنينا، وكان مباهيا بهذا الحب الكبير كل أحد مستعذبا عذاباته إلى حد قوله:
عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك
لكن المقصود أن حبه العذرى كان محملا بكل المعاناة التى تفصل الأسطورة عن الواقع، فلم تصبح ثومة كما لقبها هو وعرفناها نحن «حرم الشاعر أحمد رامى» على حد تعبير رجاء النقاش، ولا قدر له أن يطول «نجمته» كما كان يصفها ولا استطاع فى الوقت نفسه أن «يهجرها» حتى بعد أن تزوج وصار ربا لعائلة.
وانظر إلى تصويره لحظات المخاض عندما يكتب أشعاره وكيف كان يكتب مقطعا ثم يغيب عنه وجدانه، يستلقى على فراشه متوجعا يتلو المقطع الذى «ولده» بصوت الحداة الذين يرعون الأغنام فى السهول، ثم ينخرط فى نوبة بكاء لفرط انفعاله فيوافيه المقطع الثانى، وهكذا دواليك حتى يتم قصيدته. وإذا كان هذا هو حال رامى فى كتابة أى قصيدة فما بالك بقصيدة يكتبها لمن وصف حبه لها بأنه «تقديس»؟
تضافرت عوامل كثيرة لتسدل على حب رامى هذه الغلالة الشفافة من الصوفية الراقية، سنوات النشأة الأولى التى تفتحت فيها عيناه على بهاء الطبيعة فى تلك الجزيرة اليونانية التى قصدها مع والده، انشغاله المبكر بلغز الموت عندما انتقل للسكن مع أقاربه فى حى الإمام الشافعى تحفهم القبور ومواكب الجنائز لا تنقطع كما هى سنة الحياة، الأهازيج التى كان يرددها دراويش السلطان الحنفى تتناهى إلى سمعه فيحفظ بعضها ثم يعود فينشده،
دراسته رباعيات الخيام ذلك الشاعر الفارسى الصوفى بامتياز ومعه كل آباء المدرسة الرومانسية الفرنسية أمثال لامارتين وشاتو بريان وجون جاك روسو، فقدانه أخاه وهو عائد لتوه من بعثته فى عاصمة النور، يأسه من الارتباط بثومة التى اختزلت له كل نساء الأرض فى امرأة واحدة فكانت ملهمته وممتعته وصديقته وتلميذته وحبيبته، وهناك طبعا فطرته التى فطره الله عليها لا يشبه بها أحدا من كل الرجال حول أم كلثوم كما جاء فى كتاب عبدالنور خليل.
وفى الحقيقة فإنك إن تقرأ بشكل مباشر لنعمات أحمد فؤاد عن «أم كلثوم عصر من الفن» أو لرجاء النقاش «لغز أم كلثوم»، أو أن تقرأ عن رامى فى تقديم صالح جودت لديوانه أو عن أروع قصائد شاعر الشباب لمحفوظ كحوال، أو حتى تقرأ عن بعض أشخاص تلك المرحلة الزاخرة بأحداثها من 1924 وحتى 1975 كما فى كتاب رتيبة الحفنى عن الموسيقى العاشق محمد القصبجى. إن تقرأ أيا من تلك الأعمال فلا بد أنك ستخلص إلى النتيجة نفسها: إن رامى محب نادر الوجود. ولقد أحب أم كلثوم كثيرون ممن عبروا طريقها، شىء ما فى تكوينها الإنسانى كان يجذب إليها الآخرين كما تنجذب الفراشات إلى الضوء وإن احترقت، أما رامى فكان يختلف.
أحبها السنباطى فى شموخ وكبرياء، وأحبها القصبجى حبا عاقلا ومحسوبا ويكفى أن نقارن علاقة كل من القصبجى ورامى بالمال لنعرف الفارق بين شخصيتيهما. كان القصبجى حريصا على المال، يتقاضى أجره من أم كلثوم حتى عندما كانت تحيى حفلاتها بلا مقابل. ومن المواقف الطريفة التى ترويها عنه رتيبة الحفنى بهذا الشأن كيف أنه أوعز لأحمد الحفناوى مبدع الكمان أن يهاتف أم كلثوم ليطلب منها زيادة أجور العازفين فى فرقتها وبالطبع كان القصبجى من بينهم، حتى إذا تخللت المكالمة دقات ساعة «الكوكو» التى تعرف «ثومة» أنها فى منزل «قصب» غضبت وقالت «إنت بتتكلم من بيت القصبجى يا أحمد؟...حط السماعة!».
قارن ذلك بأحمد رامى الذى نسج عنه سليم نصيب (أو نسيب) رائعته «أم» باللغة الفرنسية فى عام 1994 وصدرت لها ترجمة باللغة العربية نشرتها «دار المسار» فى 1999 فدار العين فى 2010 تحت عنوان « كان صرحا من خيال». فى هذا الصرح يتخيل المؤلف شكل الحوار بين الشيخ إبراهيم والد أم كلثوم وأحمد رامى عندما عرض الأخير قصيدته «خايف يكون حبك لى شفقة على» لتغنيها ثومة بصوتها.
فى البدء ظن الأب أن رامى سيغالى فى ثمن القصيدة فتشدد قائلا «لن أدفع أكثر من جنيهين»، فإذا برامى يفاجئه بأنه لن يتقاضى منه قرشا واحدا فينقلب الحال ويلح الأب على الشاعر ليتقاضى مقابلا بينما يثبت هو على موقفه بإصرار ويجيب «سأتقاضى أتعاب القصائد التالية، أعدك بذلك، ولكن هذه القصيدة، اقبلها كما هى».
كان من المستحيل أن يكون موقف رامى غير الذى تخيله سليمان نصيب، فافتتان أم كلثوم بأبيات قصيدة «خايف يكون حبك...» التى تلاها عليها رامى ترك شاعرنا فى حالة من النشوة لا توصف، ومع ذلك فقد غامر نصيب بمثل هذا الوصف لنشوة رامى. أغمضت أم كلثوم عينيها فى البيتين الأول والثانى، ثم راحت تهز رأسها بتمهل وانفرجت شفتاها فى طرب لا مثيل له إلا عند دراويش الصعيد عندما تتملكهم قشعريرة الذِكر.
طلبت أن تسمع القصيدة مجددا وراحت تردد بعض ما التقطت من كلماتها وهى مغمضة العينين لم تزل، حتى إذا فتحتهما داهم سوادهما رامى حتى الأعماق.. جميل هذا التعبير. جميل أن يداهمنا سواد العيون.
ومع ذلك فإن القصبجى كان شديد الحب لأم كلثوم، عندما استغنت عن خدماته اللحنية فى عام 1944 وكان آخر ما لحن لها قصيدة رق الحبيب رائعة أحمد رامى، قنع وهو القامة الموسيقية العالية بأن يجلس من خلفها عازفا للعود ودام هذا الحال عشرين عاما أو يزيد. روضت أم كلثوم محبيها فلم يتمرد عليها أحد فإن تمرد أحد لم يدم تمرده، يبدأ رامى غاضبا عليها فى قصيدته «ثورة نفس» فيقول: من أنتِ حتى تستبيحى عزتى؟ وينتهى صافحا عنها فيقول: ونسيتُ سالف ذلِتى وخضوعى. ويكرر المعنى نفسه فى عشرات من قصائده التى غنتها ثومة بصوتها كقصيدة «حيرت قلبى معاك»:
خاصمتك بينى وبين روحى وصالحتك وخاصمتك تانى
أو قصيدة «هجرتك»:
غصبت روحى على الهجران وأنت هواك يجرى فى دمى
وفضلت أفكر فى النسيان
لما بقى النسيان همى
فمع كل من خلبتهم أم كلثوم ظل رامى هو المحب الأول والأوفر والأخلص والأندر الذى قيل فى حبه لأم كلثوم أكثر مما قيل فى ترجمته رباعيات الخيام ومسرحيات شكسبير، وفى نظمه مسرحياته الثلاث وأغانى العديد من الأفلام. ففى التعريف به تفوقت عبقرية الحب على عبقرية الشعر، لكن أوينتج الشعر غير محب؟
تهل علينا ذكرى رحيل رامى فى يوم الخامس من يونيو كل عام فتضيف إلى ذكريات هذا اليوم المؤلمة على الصعيد الوطنى مزيدا من الشجن الإنسانى فيما جفاف الحياة يزحف على مشاعرنا أكثر فأكثر، فمع أن شعر رامى فعليا قد توقف يوم ماتت ثومة فلم يخط بيتا بعدها، إلا أن وجوده فى حد ذاته كان يشيع فى أوصالنا دفئا يتقد فى الأصل داخله. نَحِن إليك يا رامى، نَحِن إليك بشدة فقد كنت شاعرا جميلا أما حبك فكان هو الأجمل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.