كانت بشاير الصباح موشكة على المجىء، عندما حالت بينها وبين أرض قرية «الطنطورة» عتمة، صنعتها تفجيرات العدو الصهيونى، غارة كانت عنيفة جدا على هذه القرية الفلسطينية القريبة من حيفا، مجزرة راح ضحيتها أكثر من مائتى فلسطينى. واعتقل الناجين من الرجال عاما ونصف العام، وسجل تاريخ الصهاينة الأسود يوما جديدا فى صفحاته، الأحد 23 مايو 1948، ولم يكن مر على مذبحة دير ياسين إلا شهر وثلاثة أيام، وتقريبا نفس عدد الضحايا. هذه القرية «المنكوبة» هى الأرض التى تدور فيها أحداث «الطنطورية»، عنوان الرواية الأحدث للدكتورة رضوى عاشور، والتى احتفلت بصدورها مع القراء أمس الأول فى مكتبة الشروق بالزمالك. رغم أن المكان والتاريخ وبعض أحداث الرواية حقيقية إلا أن كل الشخصيات متخيلة، فيما عدا بعض الشخصيات التاريخية التى سيعرفها القارئ، ولكن الغريب أنه رغم انشغال الكاتبة بالقضية الفلسطينية منذ طفولتها إلا أنها لم تستطع عبر كل هذه السنوات كتابة رواية تتناولها قبل «الطنطورية»، تقول: «لا أدرى لماذا، وكأن الروايات كالعفاريت. أو أنها لا تستجيب لمجرد الرغبة أو القرار»، ولكن أخيرا جاءها المشهد الأول منذ أكثر من عام، وسريعا توالت المشاهد، وأصبحت أليفة وقريبة ومخيفة، «ليست مخيفة بمعنى أن أخشاها، ولكن بمعنى خشيتى عليها». ظلت رضوى عاشور تخشى على مشاهدها، حتى بعدما اكتملت لتصنع هذه الرواية، وكان شعورها يوم تسليمها المخطوطة لدار الشروق كشعورها يوم طلبت من ابنها تميم عبور الشارع وحده، «كنت خايفة عليه جدا، لكن كان لازم يتعلم يعتمد على نفسه». كون أن المشاهد راحت تتوالى على صاحبتها، لا يعنى أن الأمر كان سهلا، فرغم معرفتها بالتاريخ الفلسطينى، إلا أنها راحت تعزز معارفها بالنكبة واللاجئين، دققت فى الخرائط، وحسبت المسافات بين قرية وأخرى، ودرست كم يأخذ من الوقت السير بينهما، «لدرجة أننى علقت خريطة كبيرة لفلسطين تضم أصغر القرى وخطوط السكة الحديدية لكى أعرف المكان بشكل معقول». عملت بدأب على زيادة معلوماتها عن فلسطين، حتى أن أحمد الزيادى مدير النشر بدار الشروق قال فى تقديمه لها إن من يقرأ الرواية سوف يقول إن الكاتبة ولدت وتربت وعاشت فى هذه الأرض. الزيادى لفت أيضا إلى عشق الكاتبة للغة العربية رغم تخرجها فى قسم اللغة الإنجليزية لكلية الآداب، وحصولها على درجة الدكتوراة من أمريكا. الندوة لاقت حضورا إعلاميا كثيفا، وجاءتها الفنانة محسنة توفيق، والشاعر الكبير مريد البرغوثى، الذى داعبه المهندس إبراهيم المعلم رئيس مجلس إدارة الشروق، وحياه لإصراره على أن يكون وراء الستار، وأشاد بكتابة رضوى عاشور التى وصفها بأنها تكتب «بتجرد المؤرخ، وباقتدار العالم، وبريشة الأديب الكبير الذى يدخل إلى أحشاء التاريخ». ورغم أن التعامل مع الأدباء عادة يكون صعبا إلا أن رضوى من الذين «تفخر بالتعامل معهم، لأن كتابتها وحياتها لا تنفصلان، بل إنها تمارس ما تطالب به». ولكن هل المعرفة الجيدة بجغرافيا المكان وتاريخه، يحل للمبدع مشاكله مع الكتابة؟. تجيب رضوى عاشور: «بالطبع لا، فهناك المشاكل المعتادة للكتابة الروائية، وخشية أن تكون غير جيدة، خصوصا أن هروب القارئ سهل، حيث يغلق الكتاب ببساطة إن لم يجذبه»، وراحت تتساءل هل تُضحك القارئ، أم تُبكيه، ثم تركت أصابعها تقودها على أزرار الكمبيوتر، واكتشفت أن الحكايات الحزينة والنكبات لا تمنع الناس من الفرح والحب والزواج، فهكذا البشر والحياة، «وهذا السلوك أعتبره أحد أنواع المقاومة».. خلف كاميرات التليفزيون التى جاءت لتغطى الندوة، وقف مريد البرغوثى يبتسم لزوجته من بعيد، ويتأمل كتبها المرصوصة على الأرفف بسعادة، ويقول لصديقه: «كل دى كتب رضوى»، هى تعلم كم هو فخور وسعيد بها. ولكنها تعلم أيضا أنه «لولا 40 سنة من حياتنا معا، لما تجرأت على الكتابة عن الحياة الفلسطينية، ولكن بحياتى معه ومع عائلته بدا لى أننى آلف هذه الحياة وأنه يمكننى التجرأ والكتابة عنها». أخيرا، استطاعت رضوى عاشور كتابة رواية عن فلسطين التى عاشت سنوات طويلة تشتبك مع قضيتها بأشكال شتى، فيما عدا الكتابة الروائية، أخيرا تحقق الحلم، وعرفت أن الفرح والضحك والحب والزواج، أشياء لا تتوقف بسبب النكبات، بل إن استمرارها يعنى المقاومة، ويعنى أن «على هذه الأرض.. ما يستحق الحياة».