يتمتع شهر رمضان في مصر، بخصوصية وتفرد عن غيره من أشهر السنة، حيث تزخر به الطقوس والعادات المميزة التي تضفي أجواءً فريدة من البهجة والسعادة. وتشهد شوارع القاهرة على سهرات وتجمعات العائلات والأصدقاء لتوثيق تلك الأجواء الفريدة والمبهجة خلال الشهر الكريم. وتشارك "الشروق"، مع قرائها لقطات ساحرة من تاريخ القاهرة، الذي يعود لأكثر من 1000 عام، وصور إلهامها للمبدعين، وذلك في سلسلة حلقات بعنوان "أيام القاهرة" على مدار النصف الثاني من شهر رمضان. • الحلقة الحادية عشرة تحدثنا في الحلقة السابقة عن ارتباط أهل القاهرة بأضرحة الأولياء، تصل لدرجة وجود أكثر من ضريح لولى في حارة أو درب. ولعب الولي في الخيال الشعبي حائط حماية وشعور بالأمان فاحتل الولي موقعًا مهمًا بين الإيمان الديني والموروث الشعبي، وهو ما يعرف عند المريدين بالكرامة، والتي تعد أهم صفة عند الولي ومن شروط الولاية. فالكرامة في مفهوم الناس هي القدرة الخارقة للولي يستطيع أن يحدث بها فرقا حينما يلجنون إليه، وإذا تحققت تلك الحاجة يعتقد الشخص أنها لم تتحقق إلا نتيجة لتدخل الولي. ونواصل في حلقة اليوم مع حالة أخرى من حيوية أهل المدينة وارتباطهم بالأماكن ومنحها أبعاداً كثيرة تزيد عن وظيفتها المجردة ،ومنها كانت" الأسواق الشعبية" في مدينة القاهرة". - كيف أخذت عقول المستشرقين؟ بحسب كتاب "القاهرة: المدينة والذكريات"؛ فقد شغلت المدينة بصخبها وحيويتها وسلعها الشرقية والغريبة عيون وعقول الأوروبيين وكان لها الجزء الأكبر من المجموعة الفنية لأي مستشرق كذلك لم يخل كتاب أحد من الرحالة إلا وقد خصص لها عدة فصول ووصفها دافيد روبرتس، قائلا: "بإمكانك أن ترى كل شيء: الحمير المحملة بالفاكهة والخضراوات والكلاب الضالة وصناعًا يحملون أثقالا أو يدقون القهوة في هون بقطعة غليظة من الخشب وصوت الشيالين وهم يصيحون اوع رجلك.. ظهرك وجهك ووسط كل ذلك يمر رجال يرتلون بصوت عال آيات من القرآن". فيما كتب جوتيه قائلا: "أسواق تختلط فيها جميع أنواع البشر من أشكال متنافرة من البدو المسلحين وأتراك ويونانيين في أزياء غريبة. وصعاليك مشردين ونساء محجبات، يمتطين الحمير أو البغال يحرسهن عبيد أشداء وسقائين بقربهم الجلدية المميزة وكنت لا أستطيع أن أمنع نفسي من الصياح متعجبا "ياله من جمال" لولا أني خشيت أن يعتقد دليلي الترجمان أنه أصابني مس من الجنون، كانت المدن هي مراكز البيع والشراء وكان لكل مدينة يوم مخصص في الأسبوع لحركة البيع والشراء، وعلى التجار دفع ضريبة مقابل عرض بضاعتهم في تلك الأسواق. ويكمل الكتاب بوصف صورة حية من أسواق القاهرة القديمة، بقوله: "تعتبر مدينة القاهرة هي أكبر مركز للتجارة في مصر وتشغل الأسواق جزءًا كبيرًا من مدينة القاهرة، ويتجمع عادة أصحاب كل حرفة في ناحية واحدة من العاصمة، حيث نجد شوارع معينة لصنف واحد من التجارة، فمثلا سوق الغورية حيث تباع شيلان الكشمير والأقمشة الحريرية، وسوق الأشرفية يباع فيه الورق، وسوق الحمزاوية تجار الجوخ، وفي سوق السلاح نجد تجارة الأسلحة، وفي الجمالية نجد تجارة البن والطباق وفيوكالة الجلابة توجد تجارة الرقيق، وسوق خان الخليلي لتجارة النحاس والذهب والسجاجيد". ويضيف: "وهذه الأسواق كانت مغطاة من السطح لتقي الناس حرارة الشمس أو برد الشتاء وتتراص الدكاكين على جانبيها، وقد ازدهرت حركة التجارة الخارجية والداخلية في عهد محمد علي بشكل ملحوظ وتتم مراقبة تلك الأسواق عن طريق المحتسب الذي كان لا يتوانى عن ضرب وجلد وتخريم الأنف، والأذن، والتشهير بأي تاجر يتلاعب بالأسعار أو يغش في أنواع البضاعة". وقد وصفه برايس دافين، قائلا: "المحتسب وهو «الأغا» المشرف على حركة الأسواق يطوف في المدينة على صهوة جواده يتقدمه القواسون حاملين ميزانا ضخمًا ويتبعه منفذو أحكامه وخدم عديدون مسلحون بالكرابيج، ويختار بالصدفة من يقع عليه الامتحان وقد يستجوب الخدم الذين قد اشتروا شيئًا من مواد غذائية ليعلم الثمن الذي دفعوه والوزن الذي أعطي لهم، فإذا اتضح غش التاجر يقوم بأمره بالعصا على الفور بعدما يقبض خدمه على التاجر، ويقوم ببطحه على بطنه وضربه بالفلقة، ثم يضربه مائة أو مائتين ضربة بالسياط يعدها الأغا في هدوء على حبات مسبحته الوردية". وأضاف برايس دافين: "وأحيانًا يكون العقاب أشد عندما تتكرر تلك الفعلة فيأمر المحتسب بتسمير أذنه ويذكر أنه في حالة استقرار حكم محمد علي في البلاد أمر بتسعيرة إجبارية موحدة تسري لمدة عشر سنوات من 1825 إلى 1835 على كثير من السلع والبضائع منها اللحوم بأنواعها والبقول والسكر والقطن والمسلي والزيوت بأنواعها وتدهورت حركة التجارة في منتصف القرن إلى نهايته تأثرًا بوباء الكوليرا وأسعار القطن وبور الأراضي الزراعية التي تركها أصحابها للعمل في حفر قناة السويس وأخيرًا بحرق مدينة الإسكندرية والاحتلال الإنجليزي". - كيف حضرت الأسواق في لوحات الفنانين؟ أما بالنسبة للأسواق في اللوحات الفنية فقد كان سوق خان الخليلي هو الأكثر إلهاما للمستشرق نظرًا لجمال معروضاته التي تمتاز بالصبغة الشرقية من مشغولات ذهبية أو نحاسية وكذلك السجاد المنقوش والمطرز بزخارف عربية. وقد احتلت تجارة السجاد الجزء الأكبر في تلك اللوحات، فكثيرًا ما رأينا لوحات يقوم التاجر فيها ببسط سجاده المنقوش بزخارف جميلة وبألوان زاهية أمام إحدى السيدات أو أحد الرجال أو مجموعة من الناس الذين يتزاحمون أمامه وفي أحيان أخرى رسم أصحاب تلك الدكاكين يجلس البعض منهم على مصاطب حجرية يدخنون الأرجيلة ويتابعون حركة البيع والشراء جاءت تلك اللوحات مماثلة تمامًا للوصف مزدحمة، صاخبة حتى وكأنك تكاد تسمع مناقشات التجار والزبائن ونداءات الباعة الجائلين الذين تمنحهم تلك الأسواق فرصة لبيع بضاعتهم. وتمتاز الأسواق في اللوحات الفنية بالمعمار الإسلامي من أرابيسك ومشربيات كلوحة خان الخليلي التي تظهر فيها المنازل بتصميم شرقي أصيل ومن أشهرها لوحة السوق على أبواب القاهرة الكارل مولر ولوحة "بازار" لجيروم و"الغورية" لدافيد روبرتس. أقرأ أيضاً: أيام القاهرة (10) .. كيف شكلت الأضرحة والموالد ثقافة أهل المدينة؟