ساعد موقع مصر المتميز أن تكون مركزا للتجارة العالمية فى العصور الوسطى متحكمة فى طريق التجارة العالمى الذى تتحرك من خلاله جميع المنتجات الشرقية الذاهبة إلى أوروبا والعكس.. إضافة إلى الأمن الذى تنعم به مصر استقرت حركة التجارة التى حرص المصريون على ألا يكتفوا بدور الوسيط فيها. سلاطين المماليك بزغ نجم المماليك كحكام لمصر وللشرق الإسلامى بعد إمساكهم بزمام الأمور فى مصر ونجاحهم فى كسر موجة المغول والتصدى للحملات الصليبية أواخر العصر الأيوبى.. وقد انتقل مركز الحكم فى عصرهم إلى القلعة وبالتالى انتقل عدد من كبار رجالات الدولة للإقامة بالقرب منها فى نفس الوقت الذى انتقلت أيضا فيه العديد من الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالنظام العسكرى المملوكى من القاهرة الفاطمية لتستقر حول ميدان الرميلة تحت القلعة مثل سوق السلاح وسوق الخيل والجمال، وكانت كل مدينة من مدن مصر (الفسطاط - القاهرة - القلعة) تمتد عمرانيا فى كل الاتجاهات فتخرج القاهرة الفاطمية من أسوارها ويعمر ما هو خارج الأسوار باتجاه القلعة وباتجاه الفسطاط - مصر القديمة حاليا - بشكل مطرد كما تعمر المناطق الشمالية والغربية خارجها.. واستمر العمران حتى وصل للشارع الأعظم من ناحية باب زويلة ليستمر باتجاه الفسطاط مرورا بمناطق النمو العمرانى الجديدة حتى الصليبة الطولونية - السيدة زينب حاليا - وصولا إلى السيدة نفيسة. ويرجع ازدهار العمران شبه النهائى للمناطق الواقعة بين القلعة والقاهرة الفاطمية إلى (الناصر محمد بن قلاوون) بعد عودته للحكم مرة أخرى عام 709 / ه 1309 م وكذلك إعادة بناء المنطقة الواقعة شمال الفسطاط، ويذكر بعض المؤرخين وهو ابن فضل الله العمرى الذى عاصر هذه الفترة أن حاضرة مصر (عاصمتها) فى وقته كانت تشتمل على ثلاث مدن عظيمة صارت كلها مدينة واحدة هى الفسطاط والقاهرة وقلعة الجبل. ويقول المقريزى: فاتصلت عمائر مصر والقاهرة حتى صارا بلدا واحدا. ورغم أن الأنشطة التجارية والحرفية قد امتدت إلى كل هذه المناطق فقد ظلت مع ذلك أساسيات الحياة الاقتصادية وجميع الأنشطة التجارية للمدينة متمركزة داخل حدود القاهرة الفاطمية وخاصة على طول القسم الأوسط للقصبة العظمى فى المنطقة الممتدة بين الصاغة والكحكيين والتى تشغل مساحة تبلغ 400 م طولا و200 متر عرضا وتحتوى على ثلاث وعشرين سوقا، كما تحتوى على ثلاث وعشرين وكالة. ومن أشهر هذه الوكالات الآن بعد أن تم ترميمها وكالة الغورى ووكالة نفيسة البيضا ووكالة بازارعا. وفى بداية القرن الخامس عشر كانت هذه المنشآت كثيفة فى الشارع الأعظم (القصبة) (شارع المعز) وتجاوزته إلى المناطق المجاورة، ويذكر المقريزى أن الأمير (قوصون) قد أنشأ وكالة وربعا يصفه لنا فيقول: إن قوصون جعلها فندقا كبيرا للغاية وبدائره عدة مخازن وشرط ألا يؤجر كل مخزن إلا بخمسة دراهم من غير زيادة على ذلك.. وقد أدرك المقريزى هذه الوكالة ورآها فبهرته معماريا من الخارج واندهش لما رآه داخلها لكثرة ما هنالك من أصناف البضائع وازدحام الناس وشدة أصوات العتالين عند حمل البضائع ونقلها لمن يبتاعه، وكان يعلوها رباع تشتمل على ثلاثمائة وستين بيتا كلها عامرة تحوى نحو أربعة آلاف نفس ما بين رجل وامرأة وصغير وكبير، وكذلك فإن الأحياء الجنوبية للقاهرة خارج باب زويلة كانت تحوى مراكز تجارية عديدة، خاصة على طول الشارع الأعظم الممتد من باب زويلة وحتى السيدة نفيسة، بالإضافة إلى مجموعة سويقات كانت واقعة وراء الخليج. التأثر برأس الرجاء على الرغم من تحول القاهرة فى العصر العثمانى من عاصمة للخلافة الإسلامية ومقر لحكم الإمبراطورية المملوكية إلى مدينة رئيسية لإحدى الولايات العثمانية، فإنها واصلت نموها التجارى والاقتصادى بسبب موقعها الجغرافى المتميز بين مدن العالم فى ذلك العصر وظلت القاهرة نقطة عبور رئيسية للتجارة العالمية، كما أنها لم تتأثر إلا تدريجيا وجزئيا باكتشاف البرتغاليين للطريق البحرى (رأس الرجاء الصالح). ونظرا لعدم وجود اتصال بين الولايات العثمانية التى شملت معظم العالم الإسلامى، فقد استفادت مصر فائدة عظيمة فى مواسم الحج كموقع أساسى فى تجمع قوافل الحجيج، وقد نمت المناطق التجارية وتضاعف إنشاء الوكالات التجارية من 85 وكالة فى العصر المملوكى إلى 062 وكالة فى العصر العثمانى، وكان معظم هذه المجموعة يقع بجوار المراكز التجارية الكبيرة كخان الخليلى والبندقانيين والغورية والأزهر والمؤيد شيخ. أماكن البضائع تعددت الأنشطة التجارية بشارع المعز بدرجة لم تحدث من قبل فتركزت فيه تسعة أعشار أنشطة مجموع تجار وحرفيى القاهرة واختص كل نشاط بجزء منه فتمركزت تجارة الأقمشة الكبيرة بين سوق الغورى والفحامين.. أما منطقة الصاغة وهى المكان الذى يشتغلون فيه بأعمال المعادن الثمينة التى يصنعونها، فقد احتلت موضعا فى منتصف الوسط، حيث تتم أيضا أعمال الصرافة، وتوجد فى جنوب الصاغة "حارة المقاصيص" أى العملات النقدية المقصوصة، وهذا الاسم يذكرنا ببعض الوجوه السيئة، كما يذكر المؤرخون أن الصيارفة فى أوقات الأزمات كانوا يقصون أطراف النقود المعدنية، ولذلك أطلق المكان حارة المقاصيص، أما تجارة البن الدولية التى حلت فى القرن السابع عشر محل تجارة التوابل، فقد كانت موزعة على 62 وكالة وخانا فى منطقة وسط الشارع الأعظم، ومن أهمها وكالة ذو الفقار وخان جعفر وخان الزراكشة وخان الباشا وخان المصبغة، وينطبق هذا الوضع على تجار الصابون والدخان والسكر الذى كان من السلع الفاخرة التى يتم تصديرها بكثرة ولم تترك هذه الأنشطة التجارية إلا مكانا ضئيلا للمهن الحرفية باستثناء القليل من الحرف التى كانت تحتل منتجاتها مكانا مهما فى حياة المصريين ومن أهمها حرفة النحاسين الذين يعملون فى أشغال النحاس وكانوا يقيمون حوانيتهم فى شارع بين القصرين وحرفة الخراطين الذين يعملون فى خراطة الخشب والصنادقيين الذين يشتغلون بصناعة الصناديق، وكانت محالهم تقع بالقرب من الأشرفية، وفى بداية الشارع المؤدى إلى الأزهر، وكانت توجد مراكز اقتصادية بالقرب من أبواب القاهرة وعلى طول الشوارع الكبيرة مثل باب زويلة الذى كان يوجد حوله خمس أسواق وست عشرة وكالة تجارية. خان الخليلى كانت تجارة البضائع الفاخرة تتم فى خان الخليلى القائم فى وسط الحى وتضم هذه السوق مجموعة الأسواق والوكالات والخانات التى شيد جزء منها فى نهاية العهد المملوكى 1511 م، والذى كان يثير إعجاب التجار الأجانب بسبب أنشطته وتراثه ولتقرأ ما كتبه الرحالة جبريل بريمون فى عام 1643 - 1645 م عن سوق خان الخليلى: يتخذ خان الخليلى هيئة قصر مهيب متسع للغاية مبنى من الحجر المشذب، ويرتفع ثلاثة طوابق توجد فى الأدوار السفلى حوانيت جميلة تحيط بميدان رائع مربع الشكل يقع فى الوسط، وفى مواجهتها يوجد صف من العقود المتكررة المرفوعة على أعمدة رائعة الجمال والمحيطة بها من جميع الجهات، وفى هذا المكان يعقد التجار صفقاتهم، أما الميدان الذى فى الوسط فإنه يستخدم كإطار لبيع البضائع بالمزاد ولعقد صفقات بيع وشراء البضائع بالجملة أو صفقات التبادل، وليس مسموحا بالإقامة فى هذا المكان إلا للتجار ذوى السمعة الطيبة. فهو ملىء بالأحجار الكريمة والمجوهرات، كما يمكن شراء أجمل الأشياء بالمزاد وفى أعلى هذا المبنى يقيم علية القوم من التجار الأجانب الذين يحضرون مع القوافل وبرفقتهم بضائع ثمينة وفيرة من الهند أو فارس.. وفى الأماكن المجاورة توجد الشوارع التى تباع فيها أفضل أنواع الروائح العطرة والسجاد. ورغم مرور ألف عام وأكثر على القاهرة لاتزال الأنشطة التجارية مستمرة فى هذه الأماكن إلى حد لما حدث من تطور فى الأماكن والبشر.