بعد وفاة النبي محمد -صل الله عليه وسلم- وإكماله لرسالته وأدائه الأمانة التي وُكل بها لأمته، بدأ التاريخ الإسلامي حقبة جديدة بمفردات وأبعاد متعددة، فرضها الجانب السياسي على المشهد في المجتمع الإسلامي، وبفعل الاختلاط بثقافات مترادفات وأفكار مجتمعات مختلفة، مع مد الفتوحات واتساع رقعة الدولة، وتشكل من بعدها عصر الخلافة بعدما مضى عهد النبوة. وعلى مدار ما يزيد على ألف عام، حكم الدولة الإسلامية العشرات من الخلفاء والحكام، بتتابع الدول الأموية والعباسية والمملوكية نهاية بالعثمانية، واختلفت مشارب ومآرب كل من تلك الدول وحكامها، ومن المراجع التاريخية وكتابات المفكرين، وتحت عنوان "دار الخلافة"، نتناول ملامح من سيرة الخلفاء ومواقفهم وفلسفتهم في حلقات مسلسلة على أيام شهر رمضان المبارك. الحلقة الثامنة.. تناولنا في الحلقة السابقة، فصلاً هاماً من خلافة عمر بن الخطاب، وهو فتح مصر على يد قائده عمرو بن العاص، إذ كان المحيطون بالخليفة يعددون أسباباً كثيرة ودوافع للتقدم نحو مصر، لكن عمر لم يأذن بهذا السير إلا بعد تردد طويل، ووجد جماعة من كبار الصحابة بالمدينة راغبة عنه، خاشية سوء مغبته، تحاول حمله على الرجوع عنه، ورد ابن العاص عن السير إليه، وكانت مبررات عمر ذات بعد سياسي، ممثلة في تجنب مغامرة مواجهة الروم في ذلك التوقيت الدقيق، وآخر اجتماعي حينما تفشت المجاعة في شبه الجزيرة وهددت أهلها بالفناء، فشغلت عمر عن التفكير فيما سواها، وكيف يفكر في غزو الروم بمصر والناس في شبه الجزيرة جياع لا يصلحون مددًا لأي جند. ولم تثن أسباب عمر المنطقية في حينها عمرو بن العاص من أن يعيد طرح الفكرة في ظروف مختلفة، ويحاول إقناع أمير المؤمنين بالتقدم، وهو ما تحقق، وروى الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه "الفاروق عمر" تفاصيله ومجرياته. مصر.. مكاسب استراتيجية يقول هيكل، "لزم ابن العاص الصمت أثناء هذه الحوادث فلم يخاطب عمر في غزو مصر، لكن الأمل في إقناع الخليفة عند إتاحة الفرصة لهذا الفتح العظيم ظل مع ذلك ماثلًا أمامه، ولما عادت شبه الجزيرة إلى مألوف حياتها، وبرئت الشام من الوباء وجاء الخليفة إليها يصلح شئونها وينظم جندها، لقيه عمرو بالجابية وسار معه في أرجاء البلاد، وعاد يحدثه في فتح مصر ويدلي إليه بحجج جديدة حسبها تزيل تردده، فلو أن المسلمين قنعوا بعد الذي أصابهم من هول المجاعة والطاعون بالاستقرار في البلاد التي فتحوها؛ لظن أعداؤهم بهم الضعف، ولأغراهم هذا الظن بمهاجمتهم، وهذا الأطربون بمصر قد جمع إليه الجند وأعد للقتاء العدة، فإذا لم يجد من يهاجمه خرج في قواته إلى فلسطين يقاتل المسلمين، أليس الخير أن يفاجئه المسلمون في مأمنه؛ فالهجوم خير وسائل الدفاع". ويضيف، "ولا خوف من أن يهزم المسلمون في مصر وأن تؤدي هزيمتهم إلى كارثة تضيع ما كسبوا من ملك قيصر، فقد أصبحت الشام كلها حصينة بقوات المسلمين المنتشرة فيها، وبانضمام العرب من أهلها إلى بني عمومتهم في الدفاع عنها، وباطمئنان غير العرب من أهلها إلى أن المسلمين خير من الروم حكمًا، وأكثر منهم عدلًا وإنصافًا". • حجج مقنعة وسمع عمر إلى هذه الحجج وقلَّبها في نفسه، فمالت به إلى مشاركة ابن العاص في رأيه، وزاده ميلًا إلى هذه المشاركة ما رآه من إيمان عمرو بالقدرة على فتح مصر إيمانًا مستندًا إلى منطق تتعذر معارضته، هذا إلى جانب أن الإغراء بفتح مصر شديد؛ فقد كان عمر وكان كثيرون من العرب في عهده يعرفون الكثير عن مصر وثروتها، وعن برم أهلها بسلطان الروم وأساليب حكمهم؛ لذلك لم يرفض طلب عمرو ولكنه استمهله حتى يكتب إليه بعد عوده إلى المدينة، وأقام ابن العاص ينتظر هذا الكتاب ويدبر في أثناء انتظاره خطة السير إلى مصر. كان عمر والكثيرون من العرب يعرفون الكثير عن مصر، ولم يكن علمهم بها مقصورًا على ما ينقله عنها من يذهبون في تجارتهم إليها من أمثال عمرو بن العاص، بل كان أوسع من ذلك مدى وأكثر دقة وإحاطة، فبين مصر وبلاد العرب صلات ترجع إلى أقدم الحِقَب، ذلك أن مصر كانت دولة بحرية منذ عهد الفراعنة، فكانت أساطيلها الحربية والتجارية تشق عُبَاب البحرين الأبيض والأحمر من أقدم عصور التاريخ، وكانت سفن من هذه الأساطيل تذهب إلى الجنوب من بلاد العرب تحمل إليه التجارة وتجيء منه بمختلف السلع، وفي مقدمتها العطور والروائح. اقرأ أيضا: دار الخلافة (7).. لماذا تردد عمر بن الخطاب في فتح مصر؟ وغدا نلتقي بحلقة جديدة..