بدا كل شىء بسيطا وفريدا من نوعه، المبانى الطينية التى تميز عزبة تونسبالفيوم، الهدوء التام وحفيف الأشجار يقابله أربعة مبان هى متحف الكاريكاتير الذى لا يتجاوز عمره العام الواحد وورشة الجرافيك ومركز التدريب ومقر إقامة الفنانين. ذهبنا إلى «تونس» التى عرفناها كمنأى يضم مثقفين وفنانين بنوا فيها بيوتا طينية على غرار عمارة حسن فتحى، وعرفناها مركزا لصناعة الفخار والخزف أسسته السويسرية إيفلين بوريه وتدرب على يديها العديد من أبناء الريف، لكنها هذه المرة كانت زيارة تشكيلية محضة إلى مركز الفيوم للفنون الذى أسسه الفنان محمد عبلة منذ سنوات أربع، لمشاهدة نتاج الورشة الفنية التى دعا إليها الفنانين من مصر ومن الخارج لحضور ورشة عمل عنوانها «إحياء البورتريه، ورشة التصوير بالشمع». بعيدا عن الأجواء الرسمية، لم يكن هناك قص شريط أو افتتاح رسمى، بل من خلال حركة دائبة وضع الفنانين الشباب لمساتهم الفنية وحولوا قاعة المركز إلى معرض ينبض بالحيوية، تملأ جدرانه أعمال 24 فنانا تدور كلها حول موضوع «وجوه الفيوم»، أى هذه الرسوم التى ترجع إلى القرن الرابع قبل الميلاد والتى كانت تميز توابيت الموتى فى العصر الهللينى تحلى كل منها بورتريه صاحبها والتى صمدت رسومها البديعة حتى اليوم. على مدى ستة أسابيع اجتمع شباب الفنانين المصرى والروسية، السويسرية والإنجليزى، الكولومبية والإيطالية والتفوا حول المعلم الهولندى «جون أوكارول» الذى يعمل فى بريطانيا فى مجال الترميم والرسم الأثرى، يمنحهم أسرار وجوه الفيوم ويعلمهم نفس الطرائق التى ابتدعها الفنان القديم التى تعتمد على صهر الشمع وخلطه بالأكاسيد المختلفة. تشير الفنانة الكولومبية الشابة كلاوديا أورخويلا بفخر إلى الأطباق المتراصة فى وسط القاعة والتى احتوت على الشمع والأكاسيد وحبات المستكة التى تساعد على تماسك اللون فوق سطح اللوحة وتشعر بالرضا أنها خاضت هذه التجربة الفريدة، وهى التى تقدم فى مدينة برشلونة نوعية مختلفة تماما من التشكيل تعتمد على الإضاءة بشكل أساسى، غير أنها تعتز بالتقنية التى تعلمتها والتى ترجع لآلاف السنين والتى سمحت لها بأن تستحضر ليس فقط الأدوات التى استخدمت قديما بل وأيضا الروح النابضة وراء وجوه الفيوم. نفس هذه الفكرة تمسك بها الفنان هانى راشد الذى أعد ورشة عمل فى الرسم والطباعة وشارك أيضا فى ورشة الشمع حيث قدم لوحات قريبة من الشكل المعروف لوجوه الفيوم ولم يظهر فيها أسلوبه المميز الذى عرف به فى الرسم، وبرر ذلك قائلا: «كنت قريبا من الوجوه الكلاسيكية للفيوم لأنى حاولت أن أعيش التجربة كاملة أى الاقتراب من منطق الألوان وطبيعة رسم الأيقونة نفسها التى تبتعد تماما عن الشغل الأكاديمى وتتميز بالبساطة وقوة التعبير». أما محمد عبلة الذى يؤكد تميز التجربة منذ بدايتها منذ أربع سنوات فى أن يقيم فنانون من ثقافات مختلفة سويا، يتبادلون الخبرات والحياة اليومية والاحتكاك بالصحراء ومشاهدة الأفلام الفنية وتحليلها، ثم الالتفاف حول تقنيات جديدة لم يألفوها من قبل سواء فى هذه الورشة أو ورشة النسيج أو ورشة الجرافيك كلها تطبع مخيلة الفنان وتجربته. ويخلص محمد عبلة الذى لا يكف طوال مسيرته الفنية عن اقتحام كل ما هو جديد إلى أهمية أن يلعب الفنان دور السينمائى قائلا: «توصلنا من خلال هذه التجربة إلى ضرورة أن يصنع الفنان ألوانه بيديه وأن يكون هذا اتجاها نحرص عليه لأنها تعطى الفنان قدرا أكبر من الحرية ومن التجريب والإبداع بشكل أوسع». فضلا عن المميزات المادية الملموسة التى تتيحها هذه التقنية «التصوير بالشمع» من حيث انخفاض التكلفة وسهولة الحذف والإضافة بل وإلغاء اللون الشمعى تماما أو إعادة استخدامه فى عمل آخر. لم تكن الورشة فقط إحياء لفن البورتريه بل للطاقة اللا محدودة داخل الفنانين، هذا ما أكدته المصرية الشابة لينا أسامة التى تحرص على المشاركة فى ورشة مركز الفيوم منذ ثلاث سنوات. وفى ركن بعيد تتأمل الفنانة الإيطالية الشابة سامنتا تيستونى المشهد عن بعد وتقول «لا أتخيل نفسى أعود أدراجى مرة ثانية إلى مدينتى الإيطالية بالقرب من فنيسيا، كيف أعود إلى الصخب من جديد بعد مرحلة التأمل والروحانيات؟». فقد ولدت فكرة مركز للفنون فى الفيوم لدى الفنان محمد عبلة بعد أحداث 11 سبتمبر وكان حلمه أن يصحح بشكل عملى الصورة المغلوطة عن العرب والمسلمين، وكانت فكرة تقديم صورة حية للتفاعل بين الفنانين المصريين والأجانب ودعوة أساتذة فى الفن لتقديم الورش وشباب الفنانين من بلدان العالم المختلفة وفى نفس الوقت تكوين كوادر شابة من الفنانين المصريين فى مركز الفيوم للفنون. وها هى الفكرة تأتى ثمارها اليوم.