يتوقف القطار فى محطة فالونى فى الشمال الغربى لفرنسا، إنها إجراءات خاصة فى ذلك اليوم لضيف خاص. قبل أيام، احتشد فى نفس المكان، على بعد ما يقرب من 350 كيلومترا من باريس، نشطاء من منظمة السلام الأخضر (جرين بيس)، فى محاولة لعرقلة قافلة من النفايات النووية كانت فى طريقها إلى روسيا. ربط أربعة منهم أنفسهم بالسلاسل على الشريط الحديدى ليتوقف القطار. من هنا تغادر النفايات ومن هنا تأتى أيضا لتستقر على بعد 20 كم من محطة القطار فى مركز لمعالجة النفايات النووية. لكن اليوم هو يوم الوقود. يتم نقل الوقود الثقيل فى اتجاه «فلامونفيل»، تلك المقاطعة الفرنسية الصغيرة حيث يطل على بحر المانش اثنان من المفاعلات النووية المولدة للكهرباء: فلامونفيل 1 و2. تسير الشاحنات بمحازاة الساحل، مرورا بمرسى اليخوت، تختفى البيوت الفرنسية الصغيرة وراءها، رحلة تستمر 40 دقيقة وصولا إلى ذلك المبنى الراقد أمام القباب الرمادية للمفاعلات النووية. على بعد أمتار قليلة، رافعات وحفارت، مسلح وخرسانة وحركة دءوبة، لا تتوقف منذ أكثر من عامين. تريد فرنسا أن تشيد هنا أول مفاعل نووى فى أوروبا يعمل بالماء المضغوط أو نظام «آى بى آر» أى مفاعل الضغط الأوروبى. حكاية فلامونفيل 3 المفاعل الجديد يحمل مجرد رقم فى سلسلة مفاعلات الموقع: فلامونفيل 3. قبل أربعة عقود تقريبا، كان يقع فى نفس المكان محجر للجرانيت، ذلك على سطح الأرض، أما تحت الماء فكان منجم الحديد، مازال المفاعل النووى يحتفظ باحدى السيارات الصغيرة فى منطقة مرتفعة بعد المدخل. والبداية كانت فى السبعينيات من القرن الماضى، باستقطاع جزء من المنحدر الجرانيتى لإنشاء سد لحماية الموقع من العواصف ومياه المانش الثائرة، ثم 1200 طن من المتفجرات لتجهيز المكان وإعداده لاستقبال 4 مفاعلات نووية فرنسية فى المستقبل. «رحب عمدة المدينة بالفكرة، لكنه اشترط ألا تزيد مساحة الموقع على 60 هكتارا مربعا، أى 600 ألف متر مربع»، كما يروى ايف بريو من شركة «كهرباء فرنسا»، وهى الشركة الحكومية لإنتاج وتوليد الكهرباء والمالكة للمفاعلات فى فرنسا. لكن فى النهاية حصلت المفاعلات على ضعف المساحة، وجزء منها من الساحل. وفى منتصف الثمانينيات، بدأت «الوحدات»، كما يروق للفرنسيين تسميتها، فى العمل بقوة 1300 ميجاوات لكل مفاعل، وهو ما يعنى عمليا إنتاج 4% من الكهرباء فى فرنسا. ويقول القائمون على المفاعل الثالث، إن بدء التشغيل فيه، سيوفر مفاعلات فلامونفيل على الأقل 7% من الكهرباء، حيث سيعمل المفاعل بطاقة كاملة تصل إلى 1650 ميجاوات. ويعتمد الفرنسيون إجمالا على المفاعلات النووية التى توفر 80% من الكهرباء فى البلد. وبارقام أخرى سيوفر المفاعل الجديد، الذى ينطلق بعد ثلاث سنوات من الآن، الكهرباء لنحو مليون ونصف المليار مواطن. فى موقع البناء 17 حفارا تجوب منطقة المفاعل الثالث. على عمق 22 مترا تحت سطح الأرض، يبدو العمال بخوذاتهم البرتقالية وحركاتهم المستمرة أقرب إلى النمل. الأرقام تثير الدهشة: 2500 عامل وفنى ومهندس، بعضهم جاء من إيطاليا والبعض من بلغاريا، يحفرون ويشيدون وينقلون يوميا 4 آلاف طن من المخلفات. بعد أكثر من عامين على وضع أول حجر للمفاعل الثالث على «الجزيرة النووية»، يبدو الموقع على وشك الانتهاء. المبنى الأكبر المخصص للتوربينات يرتفع مطلا على البحر، أمامه المبنى الدائرى للمفاعل وأمامه أيضا كلما بعدت المسافة عن بحر المانش مبنى الوقود. على اليسار منهم يمتد مبنى «غرفة العمليات» أو غرفة التحكم والتى من المنتظر أن تخدم المفاعل الرابع أيضا عند إنشائه. لكن عمليا يبدو أن أمام عمال الموقع الكثير من العمل حتى نهاية 2012. على بعد بضعة أمتار من الشاطئ يتم تشيد أنابيب الضخ. «من هنا، سيتم سحب المياه من البحر لتبريد المفاعل، نحن نتحدث عن 56 مترا مكعبا فى الثانية دون توقف على مدار اليوم»، يقول بحماس شديد ميشيل بين، مستشار العلاقات العامة لكهرباء فرنسا وهو يتجول بالخوذة والحذاء البلاستكى السميك، والزى الأخضر الفسفورى عبر موقع البناء. نفس المياه، الساخنة هذه المرة، بعد أن تأخذ دورتها حول قلب المفاعل تمر عبر أنابيب أخرى عائدة إلى البحر على بعد مئات الأمتار من موقع المفاعل. «لقد قمنا بدراسات عديدة قبل إقامة الموقع للتأكد من أن إعادة ضخ المياه الساخنة لن يكون له تأثير على البيئة»، كما يقول ميشيل بن، مستشار العلاقات العامة لشركة كهرباء فرنسا. معركة «الأمان» التطمينات على اختلافها لم تمنع ظهور جماعات وحركات مناهضة للبرنامج النووى الفرنسى بما فيها النموذج الجديد فى فلاموتفيل 3. على مدار أعوام خرجت مظاهرات فى مناطق عدة فى فرنسا تحمل أحيانا شعار «أوقفوا اى بى ار» وأحيانا، «غدا أتوقف»، كلمة يضعها النشطاء على لسان شركة كهرباء فرنسا. ويرى المعارضون «أن هناك طاقة زائدة فى فرنسا وبالتالى فإن بناء المفاعل الجديد لن يكون ضروريا»، خاصة وأن 58 مفاعلا نوويا تنتشر على الأراضى الفرنسية. التظاهرات تزامنت مع أمر أصدرته هيئة الأمن النووى الفرنسية بوقف العمل فى خرسانة فلامونفيل 3 لمدة شهر، وهو القرار، الأول فى تاريخ محطات الطاقة النووية فى فرنسا بعد أن كشف تقرير لها عن وجود «تصدعات» فى إحدى الكتل الخرسانية واشترطت وضع إجراءات مراقبة جديدة قبل استئناف العمل. تلا ذلك تحفظات قدمتها الهيئة، العام الماضى، بخصوص الأنظمة الأمنية لمفاعلات «اى بى ار» أو مفاعلات الجيل الثالث، وطالبت الهيئة مع نظيراتها البريطانية والفنلندية، من الشركة المنتجة لهذا النوع من المفاعلات، وهى المجموعة الفرنسية «أريفا»، ومن مستغليها «تحسين تصميمها» لتفادى وقوع حوادث. ويعتقد القائمون على الجيل الثالث من المفاعلات أن «أمنها غير مشكوك فيه بل وتخفف من مستوى النفايات الإشعاعية، وتجعل عملية احتراق الغاز أقل إضرارا بالبيئة بل وتكلفته أقل من المفاعلات التقليدية». ويتكلف إنشاء المفاعل الجديد على بحر المانش 4 مليارات يورو أى ما يعادل تقريبا 30 مليار جنيه مصرى، فى خطوة فرنسية لاستبدال المفاعلات النووية العتيقة بنهاية عام 2020. ويعتقد الزعيم النقابى المعارض للعولمة جوزيه بوفيهن أن «لا ديمقراطية فى فرنسا حول المسألة النووية». الدخول بالكارت السرى على بحر المانش، يبدو أن الجدل الدائر والخطط المرسومة لم تلق بظلال على سكان فلامونفيل، التى يقوم نشاطها على تربية الماشية وإنتاج الألبان. فعلى بعد كيلومتر واحد من المفاعل يظهر أول بيت تحيطه الأشجار. «المنطقة كانت صناعية منذ زمن والسكان اعتادوا العمل فى المناجم على بعد خطوات قليلة من أبوابهم»، كما يقول أحد حراس المفاعل. فى قبو فى أحد الأبنية البعيدة عن المفاعل، غرفة لاستبدال الملابس بأخرى أكثر أمنا. بوابات حديدية كهربائية. هنا لابد من ترك بطاقة للهوية للحصول على كارت أمنى ورقم سرى. بوابة، ثم اثنين.. وعند البوابة الثالثة يمر الكارت على الجهاز مع إدخال الرقم السرى. فى الأوقات العادية فى فلامونفيل الأول والثانى، تغرق قضبان اليورانيوم فى المياه، تفاعلاتها الانشطارية ترفع الحرارة إلى نحو 400 درجة مئوية، الحرارة تحول المياه إلى بخار، البخار يوجه لتحريك التوربينات التى تحرك ملفات كبيرة فى مجال مغناطيسى فتعمل على توليد الطاقة الكهربية. «أعضاء» الجسد النووى مركز المفاعل أو قلب المفاعل وهو الجزء الذى تتم فيه عمليه الأنشطار النووى السائل المتحكم فى حرارة المفاعل ويستعمل الماء عادة للتحكم فى سرعة النيوترونات ويتحول جزء منه إلى بخار عالى الضغط. حاويات تحيط بقلب المفاعل وبحيرة الماء، مصنوعة من الحديد الصلب ذات جدران سميكة لمنع تسرب الإشعاعات الناتجة من الانشطار النووى. أنابيب لخروج بخار الماء من حاوية المفاعل. محولات حرارية يأتى إليها البخار عالى الضغط لفصل دائرتى الماء. الأولى تكون عالية الإشعاع والثانية للماء الساخن المضغوط، الذى يتحول عند مغادرته للمحول الحرارى إلى بخار ماء عالى الضغط والحرارة ويوجه إلى التوربينات.