المسافة التي تفصل بين إقليم نورماندي بشمال فرنسا وأفينيون جنوبها تبلغ ألف كيلومتر تقريبا, أما المسافة الزمنية التي تفصل بين تحرير فرنسا من الاحتلال النازي بنزول قوات الحلفاء علي شواطئ الشمال في السادس من يونيو عام1944 . وإعلان البابا أوربان الثاني في كلير مونت القريبة من أفنينيون عن بداية الحملات الصليبية علي المشرق العربي في27 نوفمبر عام1095 فتبلغ849 عاما, وهي المسافة التي تفصل بين التحرر والدعوة للاحتلال, كما أنها بدت أمامي وكأنها المسافة الزمنية الشاسعة نفسها التي فصلت بين ما رأيته من مفاعلات نووية سلمية في غربي فرنسا, ومفاعلات نووية عسكرية في جنوبها! لكن المفاجأة هي أن فرنسا قررت أن تتحرر مرة ثانية وخلال66 عاما, لكن هذه المرة من الوقوع في أسر سلاحها النووي! كانت بداية الرحلة من العاصمة باريس, واكتشفت أن الهدف منها هو مشاهدة ما بدا لي التحرير الثاني لفرنسا بعد تحريرها في خواتيم الحرب العالمية الثانية, فقد قررت فرنسا تدمير المعاول التي تهدد بتدمير الحضارة الإنسانية التي هي أحد أحجار زاويتها, وذلك بقرار نهائي بإزالة المفاعلات التي تنتج مواد إنشطارية تستخدم في تصنيع السلاح النووي. البداية كانت من قصر الرئاسة بالإليزيه, حيث جلست إلي الكابتن أنطوان بيسون كبير موظفي قصر الإليزيه ونائب الرئيس نيكولا ساركوزي فيما يتعلق بالأسلحة النووية, وهو منصب استشعرت أهميته بشكل أكبر عندما بدأت في تفقد كل من المفاعلات النووية السلمية والعسكرية علي حد سواء. قبل أن يتسلم مهام منصبه الرفيع, كان كابتن بيسون قائدا لغواصة نووية هجومية تحمل اسم فيجيلانتي أي القائم علي تنفيذ العقاب. بمجرد الدخول إلي المبني الملحق بقصر الإليزيه الرئاسي, والذي يقع به مكتب الرجل تستشعر ثقل فرنسا الثقافي قبل العسكري, وتاريخها العريق قبل ترسانتها النووية والتقليدية. هذه الانطباعات القوية تتعمق بمجرد تصفحك حوائط المكتب المجلدة بخشب قديم ثمين. بدأ الرجل حديثه في الوقت نفسه الذي قام بتقديم القهوة والحلوي بنفسه, حيث أفتتح بالحديث عن عقيدة فرنسا النووية وسجلها التي عكسها خطاب الرئيس نيكولا ساركوزي في مارس الماضي بمدينة شيربورج شمالي فرنسا, وهو الذي يمثل نموذجا جيدا لدولة نووية مؤمنة بضرورة نزع السلاح النووي وتقوم بتنفيذه علي نفسها, بالاضافة إلي كونها الدولة الوحيدة التي ألزمت نفسها بحظر التجارب النووية, بل وفككت منشآتها بما لا يمكن الرجوع عنه. وحيث ان التخلي عن رادع نووي قائم بالفعل هو مسألة غير مسبوقة ومن ثم صعبة علي الاستيعاب فإن الرجل قرر أن يواصل عرض مواقف بلاده الايجابية علي هذا الصعيد, حيث كشف عن أن فرنسا هي الوحيدة التي كشفت عن ترسانتها النووية التي تتعدي ال300 رأس نووي, مؤكدا أن باريس ليس لديها احتياطي من هذه الأسلحة, حيث انها لاتكتفي بإخراج السلاح من الخدمة, ولا بنزع الرأس النووي منه, وإنما تقوم بتفكيكه تماما, بما لا يمكنه من العودة للخدمة مرة ثانية عكس ما يحدث مع الصواريخ الأمريكية والروسية التي تذهب إلي الاحتياطي وهي العملية التي كلفت فرنسا حتي الآن ستة مليارات يورو, أي ما يقرب من45 مليار جنيه مصري! ويبدو أن جعبة الرجل لم تخل حتي هذا الحد عما أقدمت عليه بلاده, حيث كشف المسئول الفرنسي الرفيع عن تخلص فرنسا من كل الصواريخ الأرض أرض, كما أنها خفضت الصواريخ البحرية بمقدار الثلث, وهي بصدد إجراء نفس نسبة الخفض في صواريخ الجو, بالاضافة إلي وضع باريس نظام مراقبة دقيق علي تصدير المواد ذات الاستخدام المزدوج. ولم يتوقف الحوار مع المسئول الأول عن قدرات فرنسا النووية عند هذا الحد, لكنني أستميح القارئ عذرا في أن أترك كابتن بيسون مؤقتا لكي أتحقق من هذا الجزء من حديثه علي أن أعود إليه مرة ثانية. الرحلة من باريس إلي مركز رصد الهزات الأرضية سواء كانت نتيجة لزلازل طبيعية أو بسبب تفجيرات نووية لا تستغرق وقتا طويلا, حيث يقع المركز في ضاحية ساكلاي علي بعد20 كيلومترا غرب العاصمة, والمركز يمثل مكونا مهما من مكونات القدرات النووية الفرنسية التي تنضوي تحت ما يعرف بلجنة الطاقة الذرية التي تأسست في عام1945 عقب الحرب العالمية الثانية التي تدير البرنامجين النوويين السلمي والعسكري في البلاد, ويعمل بها أكثر من15 ألفا من بينهم ألف من طلبة الدكتوراه, و278 من حملتها. أما بالنسبة للميزانية السنوية للبرنامج السلمي, فإن55% منها يأتي من الحكومة الفرنسية, في حين يأتي35% من شركات مستفيدة بشراكتها مع البرنامج, أما ال10% الباقية, فتأتي من صندوق خاص بعمليات التأمين وتنظيف المنشآت النووية, أما الميزانية السنوية للبرنامج العسكري فتأتي من وزارة الدفاع وقدرها3.3 مليار يورو. ولجنة الطاقة الذرية لديها بخلاف مركز الرصد مكونات أخري وهي: معامل الطب الشرعي النووي التي تقوم بتحليل العينات الواردة من جهات المفتشين الدوليين علي المواقع النووية في العالم مفاعلات سلمية بعضها يعمل في مجال إنتاج أكثر من80% من الطاقة الكهربائية, وبعضها ينتج مواد أخري مثل النظائر الطبية المشعة مفاعلات لإنتاج المواد الانشطارية التي تستخدم في صناعة الأسلحة النووية. وصلت إلي مركز بروييه لو شاتيل, حيث كان في استقبالنا إيتيان بوشون المدير المسئول عن الأمن ومنع الانتشار النووي في لجنة الطاقة الذرية. غرفة المراقبة الرئيسية في المركز والمعلومات التي تستقبلها علي مدار ثواني اليوم تصيبك بالدوار! المركز عبارة عن جزء مهم من نظام مراقبة دولي لكل من النشاطات الزلزالية والانذار المبكر ضد التسونامي ومراقبة التجارب النووية, وذلك بهدف مكافحة الانتشار النووي ومكافحة الإرهاب النووي بالتعاون مع برامج أوروبية أخري في هذا المجال. وفي هذا الإطار, فإن المركز لديه القدرة علي رصد أي تفجير يبدأ من كيلوميجا طن في أي بقعة في العالم من خلال24 محطة رصد علي مستوي العالم, حيث تأتي فرنسا في هذا المجال في المركز الثاني بعد الولاياتالمتحدة. وتبدأ المهمة في المركز من الحصول علي المعلومات من محطات الرصد, فتحليلها, ثم تقويمها, وذلك قبل إبلاغ الرئاسة الفرنسية أو وزارة الدفاع علي حسب الحالة. خلال المناقشة مع كبير الخبراء في المركز, ولمزيد من التأكيد علي قدرات الرصد, تم عرض صورة لهزة أرضية في كوريا الشمالية في نهاية العام الماضي. وقد أوضح الخبير من خلال استعراضه للإشارة الواردة من المنطقة موقع الهزة التي بدت كرسم لضربات القلب ان الهزة كانت في الغالب نتيجة تفجير نووي, إلا أنه عاد فقال إن المشكلة تكمن في عجزنا علي رصد انبعاثات غاز الزينيون المتخلفة عن اي تفجير نووي, وبالتالي, فإن عدم رصد الغاز لايقطع بوقوع التجربة, إلا أنه لاينفيها, فمن الممكن ان تكون الرياح قد ابعدت الغاز عن مراكز الرصد بالمنطقة. وقد دفعني ذلك إلي ان أسأل الرجل عن هامش وقوع خطأ في تقويم مايتم رصده من إشارات حيث قال الرجل: بصفة عامة, كلما كبر حجم وقوة الإشارة, قل هامش الخطأ, ليصل الي2%. ولكن اذا كانت الاشارة ليست بالقوة المطلوبة, وإذا كنا لانعلم نوعية الصخور في موقع النشاط, فإن هامش الخطأ قد يصل الي5%. إلا ان الخبير عاد ليؤكد ضآلة هامش الخطأ من خلال عرضه للتناقض الذي رصده المركز بين ما أعلنته الهند في تفجيرها النووي في عام1998 وأن قوته كانت أقل من20 ميجا طن, في حين ان معلوماتنا تقول انه لم يقل عن25 ميجا طن, وهو ماتأكد فيما بعد, مشيرا إلي أن التفجير المثالي يقع مابين10 50 ميجا طن, وأن الأكبر في التاريخ هو ما أجرته روسيا عام1952 وكان حجمه58 ميجا طن. تحد آخر يواجه المركز والذي يتمثل في التمييز بين الهزة الأرضية الناجمة عن زلزال طبيعي او تفجير نووي, وهو الأمر الذي يستعان فيه بالعديد من الوسائل, ومن بينها مقارنة الإشارة الواردة بإشارات سابقة وقياس مدي قربها من السطح, وشكل ومعدل الإشارة, حيث اشار الخبير الي انه كلما زادت كفاءتنا في رصد وتحليل الزلازل وموجات المد البحري الناجمة عنها التسونامي ازدادت قدرتنا علي رصد التفجيرات النووية. وإذا كان مركز بروييه لو شاتيل هو أذن فرنسا النووية التي تسمع, فان معامل تحليلها الواقعة في نفس منطقة ساكلاي هي عينها التي تري وأنفها الذي يشم, حيث وصفها احد الخبراء بأنها الطبيب الشرعي الفرنسي النووي, فداخل غرف وصالات المعامل المعزولة, يجري تحليل العينات الواردة من مواقع مختلفة من أنحاء العالم الخاضعة لتفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية. كبير خبراء المعامل يقول إن كل جزئ في كل عينة لديه بصمة وتطور لبنائه, والتحليل يقوم بعمل وثيقة تعارف لما كان عليه الجزئ, وماجري عليه من تحولات بفعل بشري لمعرفة مصدر العينة, وما صاحبها, وذلك في اطار مكافحة الانتشار النووي. المعمل هو واحد من ضمن ستة اخري علي مستوي العالم التي تتعامل معها الوكالة الدولية للطاقة الذرية, التي ترسل لها العينات دون ان تفصح عن الجهة التي تم جلبها منها, وذلك لمزيد من التدقيق, ولمزيد من الحرص علي عدم تسييس اي قضية. وكما طرحت في مركز رصد التفجيرات النووية, طرحت في معمل التحاليل: ماهو هامش الخطأ في مثل هذا العمل؟ كبير الخبراء انبري للإجابة, قائلا: لعلك تلاحظ هذا التشدد في تعقيم وعزل غرف المعمل, وهو الحرص الذي بات مطلقا بعد ماحدث في1995 من نتائج خاطئة جاءت من احد المعامل الستة المشار لها, والتي أكدت بعد تحليل عينات من العراق وجود نشاط نووي, وهو ما اتضح عدم صحته فيما بعد!. واستطرد الرجل, وكأنه يوضح نتيجة اجراءات التعقيم والعزل في تحجيم هوامش الخطأ, حيث قال: في عام2002 رصدنا تناقضا بين ما أعلنته إيران وبين نتائج عينات من أجهزة الطرد المركزي لديها, وقد ردت طهران بأن السبب في ذلك هو استخدامها أجهزة طرد مركزي مستعملة واردة من باكستان, وقد تحققنا من ذلك بالفعل, واتضح صحة ماقاله الإيرانيون! وإذا كنا قد تجولنا في داخل اذن فرنسا النووية( مركز رصد التفجيرات) في بروييه لوشاتيل, وذلك قبل ان نجوس في عين وأنف فرنسا النوويتين المتمثلة في معمل الطب الشرعي النووي في ساكلاي, فإنني استميح القارئ عذرا مرة ثانية في العودة الي الحوار الذي بدأنا به مع الكابتن بيسون كبير موظفي قصر الرئاسة للشئون النووية, ومستشار الرئيسي الفرنسي ساركوزي في هذا الصدد, خاصة ان الحوار جري قبل ساعات قليلة من بدء أعمال مؤتمر مراجعة اتفاقية منع الانتشار النووي في نيويورك في بداية شهر مايو, والذي سيطرت عليه كالعادة منطقة الشرق الأوسط. طرحت علي الرجل مايبدو تناقضا بين الفشل في تحقيق الشروط التي تمت بناء عليها الموافقة علي التمديد اللانهائي للاتفاقية في عام1995 والتي تمثلت في إخلاء المنطقة من الأسلحة النووية, ودعوة الدول غير الأعضاء للانضمام, بما في ذلك القبول بالالتزام بعدم حيازة السلاح النووي وفتح جميع المنشآت للتفتيش من ناحية, وبين مايوصف بمحاولات متوقعة للالتفاف خلال مؤتمر المراجعة حول هذه الشروط, من ناحية اخري, وبما سيقوض مصداقية الاتفاقية في وقت نحتاج فيه لهذه المصداقية بشدة؟ لم يتردد الكابتن بيسون في الإجابة, حيث قال اننا لم نغفل الشروط التي وضعت, والتي مازالت قائمة ونحاول تحقيقها, كما ان الولاياتالمتحدة تبذل جهودا كبيرة علي هذا الطريق. ولكن يجب ان نوضح ان عدم النجاح في تحقيق هذه الشروط لايعني ان نمتنع عن وضع شروط اخري, الا ان اجابة المسئول الفرنسي الكبير دعتني للاستفسار عن موقف بلاده من سعي بعض الدول ألا تكون مجرد مستوردة ومستهلكة للتكنولوجيا النووية, وهل ترفض فرنسا سعي هذه الدول أن تصبح مايعرف بالدول القادرة نوويا, اي ان تمتلك ناصية المعرفة والتصنيع النووي بنفسها سواء كانت ايران أو غيرها من الدول, وهو مايختلف تماما عن سعيها لتتسلح نوويا؟ اجابة الرجل كانت قاطعة, حيث قال: أن تصبح اي دولة قادرة نوويا مع الالتزام بالشفافية, فإنه لاتوجد اي مشكلة, بما في ذلك التزام حدود في تخصيب اليورانيوم والخضوع للرقابة. طلبت من الرجل ان يصحح لي المعلومات التالية حول مساع ستبذل في مؤتمر مراجعة اتفاقية منع الانتشار النووي, وهي: إعادة تفسير المادة الرابعة من الاتفاقية, وتقييد تفسير المادة العاشرة, وجعل البروتوكول الإضافي الخاص بالرقابة إجباريا بدلا من أن يكون طوعيا, وإشراك مجلس الأمن بشكل اكبر في هذه القضايا؟ إجابة كابتن بيسون كانت واضحة, حيث أكد ان تلك هي الاهداف, وإن عاد فأكد أنها لاتعكس رغبة وموقف فرنسا فقط, وإنما العديد من الدول. ولأن القضية تتعلق بمستقبل البشر كافة, وليس مجرد الغرب, فقد سألت الرجل عن رأيه في ورقة العمل التي توصل لها مايعرف ب تحالف الأجندة الجديدة الذي يضم كلا من السويد وأيرلندا والبرازيل والمكسيك ونيوزيلندا وجنوب إفريقيا, والذي تقوم مصر بدور المنسق له, وهي الورقة التي تدعو لعقد مؤتمر دولي للتفاوض علي معاهدة دولية لإخلاء الشرق الأوسط من السلاح النووي؟ وبالرغم من ان بيسون اكد لي ان مثل هذه الورقة لم تنم الي علمه, فإنه اوضح ان فكرة المؤتمر الدولي للتفاوض بشأن معاهدة دولية لإخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية تبدو فكرة جيدة جدا ومثيرة للاهتمام. وأعرب عن اعتقاده بأنه اذا كان ذلك هو نتيجة مؤتمر المراجعة, فإنه سيكون امرا جيدا جدا. قبل ان نترك مكتب مستشار الرئيس الفرنسي للشئون النووية كان لابد من تذكيره بأن القيادة الدينية الإيرانية أصدرت أخيرا فتوي بأن حيازة وليس مجرد الاستخدام الأسلحة النووية حرام شرعا, فجاء تعليق الرجل فوريا, حيث قال: لقد كانت نفس القيادة الدينية موجودة عندما اكتشفنا في عام2003 أنشطة نووية سرية هناك, فهناك أشياء عرفناها, وأخري لانعرفها منذ ذلك الحين. وهذه الانشطة التي اكتشفت والمسجلة في تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية توقفت رسميا في العلن, ولكن ماذا يحدث منذ ذلك الحين؟ لا أحد يعرف. نعم أمامنا انشطة نووية يقال انها سلمية, ولكننا لانعرف الجدوي الاقتصادية لاستخدامها سلميا! وأعتقد ان القيادة الايرانية تسعي لمزيد من النفوذ والسيطرة, ولكن ماذا لو انفتحت المنطقة علي سباق تسلح نووي في حال حصول ايران علي مثل هذا السلاح؟! الي هنا وانتهي الحوار, الا ان جولتنا في المنشآت النووية الفرنسية لم تنته, بل هي لم تبدأ بعد, ففي الايام التي اعقبت اللقاء من الكابتن بيسون, كان لي موعد مع بعض أغرب ما رأيته في حياتي, فقد كنت علي موعد مع أوزوريس النووي الفرنسي!